Al-Quds Al-Arabi

كتاب «العلويون في سوريا»... ما الجديد؟

-

■ فــي العقدين الأخيريــن، أبدى عدد مــن الباحثين الغربيــن اهتماما بقراءة تاريخ العلويين في ســوريا؛ فهذه الطائفة المهمشــة و»المعزولة في الجبــال» وفق الرواية التقليدية، ســيلعب أبناؤهــا دوراً مؤثراً على صعيد الحياة السياســية والعســكري­ة في سوريا، بعيد الســتينيا­ت. وقد جاءت أحــداث الانتفاضة الســورية في عــام 2011، لتدعم الاهتمام بدراســة هذا الجانــب، وتنوعــت زوايــا النظر في هذا الشــأن بــن التركيــز على دور العلويين فــي فترة حافظ الأســد ووريثه )غولد ســميث( أو قــراءة طبيعة اللاهوت النصيري/العلوي )ياور فريدمان(.

وربمــا من أهم الكتب الصــادرة في هذا الجانــب أيضا عمل المؤرخ الألماني ســتيفن وينتــر «تاريــخ العلويين في ســوريا» الذي كشــف فيــه جوانــب جديــدة عــن علاقــة العلويــن بالعثمانيي­ن، من خلال العودة إلى كم واســع مــن الوثائق المتوفرة حــول أبناء الريف الســوري خلال هذه الفتــرة، وخلافا للصــورة التي تقول إنهم عاشــوا في الجبال معزولين، نكتشــف مع وينتر أنّ هذا الطرح لم يكن دقيقــاً كفايةً، وأنّ عائــات علوية عديدة ارتبطــت بالعثمانيي­ن فــي فترة القــرن الثامن عشــر، ولعبــت دوراً على صعيد حكــم مناطق واسعة وجمع الضرائب للدولة المركزية.

التاريخ العلوي

وقد ســاهمت هذه الكتب والقراءات في الســنوات الأخيرة بتعريفنا وتقريبنا أكثر من فهم التاريخ العلوي في سوريا، ومع مرور الأحداث، وتحول تاريخ البلاد وطوائفها وإثنياتها إلى جزء من النقاش والســجال اليومــي، بدا أحيانــاً أنّ الخوض في هــذه التواريخ، ضمن ما هو متراكم من دراســات وكتب ليس بالأمر اليســير، خاصــة أنّ هناك عامــا آخر عقّــد من هذا الجانــب، ويتعلق بعــدم القدرة على خــوض زيــارات ميدانية، كما فعل غالبية من درســوا العلويين في سوريا قبل عام 2011، ولذلك كان عدد من هؤلاء الباحثين والمهتمين، يعودون لأرشــيفهم وأوراقهم القديمة، للحديث عــن العلويين، وبالأخص فترة الأســد الأب )ريموند هينبوش( ما أدى أحيانــاً إلى تكــرار الأفكار والاســتنت­اجات ذاتها حول هــذا التاريخ، في حين بقي موضوع دراســة العلويين ومناطقهــم بعد الحرب، موضوعاً صعب المنال، ربما لأســباب عديدة، أهمها بلا شــك عدم القدرة على القيام بزيــارات ميدانية، ولذلك بــدت أحيانا القراءات في هــذا الجانب ضعيفة، أو تركز على جوانب هامشــية )موضوع العلويين في المعارضة السورية( وربمــا من الاســتثنا­ءات القليلــة في هذا الجانب، الدراســات التــي أعدّها الباحث السوري خضر خضور حول مجتمع الساحل خلال النزاع.

وربمــا من بين الأمثلــة التي توضح الإشــكالي­ة التي أخــذ يعاني منها الباحثــون في دراســة المجتمع العلــوي، حتى على صعيــد مناطق أخرى في ســوريا بعيــد الحرب، كتاب «العلويون في ســورية: الحــرب والدين والسياســة في المشــرق» الــذي تُرجِم مؤخــرا للعربيــة، ترجمة رضوان زيــادة، أحمد العبــدة، عن منتــدى العلاقــات العربية الدوليــة. ففي هذا الكتــاب الذي صدر بنســخته الإنكليزية عام 2015، وضــمّ أوراق عدد من الباحثين الغربيين، نلاحظ أنه بقدر ما ســعى المشــاركو­ن إلى فهم تاريخ العلويين في البــاد، لكنهم في الغالب كانوا يقفــون على تخوم الأحداث في ســوريا بعد عــام 2011 دون أن يتمكنوا من فهم مــا جرى في المجتمع العلوي على صعيــد العلاقة بالنظام، وظهور شــبكات اقتصادية وأهلية جديــدة، وأيضا على صعيــد التدين داخل الطائفة، وهــل أفرزت الحرب طقوسا جديدة في هذا الشأن، خاصة أنّ الطقوس في فترات الأزمة يعاد إنتاجهــا واحياؤها أحيانا لتعلب دورا على صعيد رســم خطوط الصراع الاجتماعية )لاحظ مثلا طقوس المولد النبوي في الســنوات الأخيرة لدى الدمشــقيي­ن( ولذلك نــرى أنّ غالبية هذه الدراســات انشــغلت بالجانب التاريخــي، كما بدت متفاوتة ســواء على مســتوى الطــرح، أو غارقة في تكرار بعــض الكليشــيه­ات التقليدية )مجتمــع العزلة(. وربمــا ما يجعل القارئ لهذا الكتاب يصل لهذا الاستنتاج، أنّ ترجمة الكتاب تأتي في فترة شهدت تراكما لا بأس به على صعيد الكتب والدراسات المترجمة عن العلويين في ســوريا، ما جعل بعض الاستنتاجا­ت والقراءات في هذا الكتاب تقليدية. ففي دراسة بعنوان «تكوين مجتمع سورية العلوي» يحاول أسلم فاروق علي )جامعة كيب تاون، جنوب افريقيا( دراسة تكوّن هذا المجتمع ومعتقداته على مدار ألف عام تقريباً، وهو يــرى في أنّ الأعيان، بقوا يحكمون هــذا المجتمع، وبالأخص فــي الفترتين العثمانية والفرنســي­ة، مقابــل الوصول إلى أشــكال متنوعــة ومحددة من الســلطة السياســية والمكاسب الاقتصادية، لكن ذلك سيتغير مع ثورة 1925، كما جادل المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس، التي شــكلت معلما بارزا يــؤذن بظهور السياســات الجماهيريـ­ـة فــي العالــم العربي، وفي ســياق اهتمامــه بدور العلويين في الخمســيني­ات، يرى الباحث أن ظهور طبقــة متعلمة برزت على نطاق واســع داخل الجيش وحــزب البعــث، أدت إلى خلق إحســاس باللحمة أو العشائرية المجتمعية، التي لم تكن موجودة من قبل، مع ذلك فهو لا يبين لنا كيف تشــكلت هذه اللحمــة، ومتى، وأطوارها، وما هي الأفكار التي دفعتها للتشــكل؟ وربما دون هذه الإجابات، سنبقى نحوم حول السردية ذاتها، التي تقول إن هناك «مؤامرة علوية» تم التخطيط لها منذ الخمســيني­ات، أو ربما قبل ذلك، مع أنّ المجتمع العلوي، كما يبين في دراســته، بدا منقسما في تلك الفتــرة بين عدة عشــائر وزعامات محليــة. وربما ما يُسجَّلُ على هذه الدراسة أنّ الباحث بالغ في فكرة أنّ العلويين كانوا يعيشــون في عزلة قبل بدايات القرن العشــرين، وبذلك نكــون أمام تاريخــن )تاريخ العزلة، وما بعــده( وهذا رأي لا يوافقه عليه ستيفن وينتر في ورقة مهمة له بعنوان «العلويون في العهد العثماني» إذ يرى وينتر أنّ هذه السردية، التي تظهر العلويــن في فتــرة الانتداب الفرنســي لســوريا، بينما كانوا غائبين قبلها، هي ســردية وقع بها عدد كبير من الأكاديميي­ن، ويعود ذلك في الغالب إلى النزعة العامة في «التأريخ القومي» الحديث لرفض الفترة العثمانية برمتها، أما السبب الأهم كما يراه فهو يعود إلى اعتماد المؤرخين المفرط على نصوص دينية وروائية تركز الاهتمام بطبيعتها علــى هوية العلويين الدينية المختلفة، بــدل التركيز علــى اندماجهم في المجتمع الســوري والعثمانــ­ي الأوســع. واســتنادا إلــى ســجلات الأرشــيف العثماني في إسطنبول وطرابلس، يبين وينتر في ورقته هذه، أنه منذ أواخر القرن السادس عشر حاول العثمانيون أحيانا في تعاملهم مع العلويين الفصل بين رؤيتهم الدينية التقليدية، والســعي ببســاطة لزيادة إيراداتهم إلى الحد الأقصى، ففي حادثــة فريــدة تتعلــق بالإنتــاج غير الشــرعي للمشــروبا­ت الكحوليــة فــي منطقــة حمص عــام 1584 يــرد الأمــر التالي: «يســكن جبال طرابلس بشكل رئيس الطائفة النصيرية، وهم زنادقة شــيعة يجلبون باســتمرار الخمر لبيعه والمتاجرة به.. من الأفضل بكثير لخزانــة الدولة )ميري( في كل الأحوال أن تفــرض ضريبة علــى الخمر، بالإضافة إلــى الضرائب المقدرة وضرائــب الوزن.. لذا قرر )الســلطان( إصدار فرمان يقضي، طالما أن هذا لا يســبب أي ضــرر لجباية الضرائــب الأخرى.. بفــرض ضريبة علــى الخمر الــذي يجلبه النصيريــو­ن، وفق القانون القديم، والضرائب المقدرة وضرائب الوزن في منطقة حمص والمناطق الأخرى المشار إليها».

كمــا يبين وينتر من خلال دراســته للســجلات في القرن الثامن عشــر، كيــف لعبت عائلات مثل شمســن دورا فــي نظام الالتــزام العثماني، كما عرفت هذه الفترة صعود طبقة الأعيان، جراء تطور زراعة التبغ، ما أدى إلى تحول اللاذقية في القرن الثامن عشر إلى مركز تجاري رئيس، وفّر العمالة للعديد مــن العلويين ومجتمعــات الفلاحين الأخرى فــي المنطقة، لكن هذه الرؤية لا تعني في المقابل نفي إجراءات التمييز التي مورســت أحيانا بحق الملتزمين العلويين أنفسهم وباقي الأفراد )مثل الاحتفاظ بزوجة الملتزم أو ابنه رهينة في جزيرة أرواد( كما أنّ أوضاعهم المعيشية بقيت صعبة كحال معظم الفلاحين السوريين.

«روح على الشام يا ابني»

حاول بعض المشــاركي­ن في الكتاب الاعتماد على أرشيفهم، وزياراتهم الميدانيــ­ة الســابقة، لفهم مــا يجري في ســوريا بعد عــام 2011، وربما من بــن هذه المحــاولا­ت الورقة التي كتبها ليون غولدســميث «تنــوع العلويين وتضامنهم: من الساحل إلى الداخل» إذ يميز بين مجتمعين علويين، علويي الســاحل وعلويي الداخل، ويرى أنّ سياســات بشــار الأسد الاقتصادية، أدت إلــى تركــز هائل للســلطة الاقتصاديـ­ـة في أيــدي أفــراد مقربين من النظــام، فيما تزايــد إهمال العلويــن العاديين في الأرياف، مــا خلق حالة من الحساســية لــدى علويي الداخــل من وجــود تفرقة مناطقيــة لصالح علويي الســاحل، لكن هذا الشــعور ســيزول مع الأشــهر الأولى من اندلاع الانتفاضة، إذ أجبر علويو الداخل، كما يرى، على اتخاذ مواقف متشــابهة مع علويي الســاحل. وفي دراســة أخرى يدرس آلان جورح اقتصاد سوق بشار الاجتماعي، الذي لعب دورا مساعدا في حدوث الانتفاضة السورية. ومــن الدراســات المهمة في هذا الجانــب هي التي أعدهــا فابريس بالانش )جامعة ليون2( بعنوان «روح على الشــام يا ابني: التحولات الديموغراف­ية العلوية» التي حاول فيها قراءة تاريخ العلويين في ســوريا خلال مئة سنة من زاوية الديموغراف­يا، ومن خــال إجراء جولات ميدانية عديدة في فترة ما قبل الحرب في مدن الســاحل وبعض ضواحي دمشق التي يعيش فيها علويون، يرى أنه في عام 1935، تظهر نتائج الإحصاء السكاني مستويات تمدن منخفضة بين المجتمعات العلوية داخل المنطقة الســاحلية في الدولة العلوية، ولذلك شــكلوا ثلثي ســكان الدولة العلوية، لكنهم لم يمثلوا إلا 3% فقط من ســكان المدن، وخلال العقد التالــي، ازداد عدد العلويين في بلدات ومراكــز المنطقة الحضرية بنســبة مهمة بلغت قرابة الـــ10%، وعلى الرغم من أنّ عمليــة التمدن العلوي كانت تتقدم على نحو جيد في نهاية منتصف القرن العشــرين، فإنّ مستويات الفقر والتخلف الشديد استمرت، وهذا ما نراه في حي الرمل الشمالي، وهو حي علوي أنشئ شمال مدينة اللاذقية، إذ يصف لنا منير مشــبك موسى وهو أنثروبولوج­ي محلي الوضع في تلك الفترة كالتالــي: «لا كهرباء، ولا ماء، ولا صرف صحي، ولا خدمات بلدية، ولا رعايــة صحية. بعوض وذباب بعدد حبات الرمل.. معظم ســكان الحي عمال أو من فئات البروليتار­يا الأخرى؛ بعضهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى من الموظفين أو التجار، 35% من الســكان يعيشون في بيوت يملكونها». مع فتــرة الإصلاح الزراعي، أقيم عدد من الســدود على ضفــاف العاصي، ما خلــق زراعة مرويــة وظهور فرص عمل مهمة في الســهول قليلة الســكان، وأدى إلى انتقال آلاف العائلات العلوية من الجبال إلى السهول المنخفضة المحيطــة بــه، وبالتوازي مع هذا التطــور، أطلقت الحكومــة البعثية في عام 1963 مشــروع بناء تجمع سكني واسع لإيواء تدفقات القادمين، وقــد رحب علويو الســاحل بهذه المبادرات، وســهل تحالفهم مع الحزب الحاكم، وقد أســس العلويون المهاجــرو­ن أحياء لهم في جنوب حمص وشــرقها مثل أحياء الزهــراء وكرم اللوز والأرمن وكرم الزيتون، وبحلــول الثمانينيا­ت أصبحــوا مجتمع الأغلبية فــي المدن الســاحلية اللاذقيــة، كمــا ازداد وجودهم فــي مدينة دمشــق، حتــى إن إحدى النــكات الشــامية الشــائعة العنصرية آنــذاك كانت تقول «لم رأس الولد العلوي مســطح؟ الجواب: لأن أمــه كانت تصفعه صباح كل يوم على رأســه مــن الخلف وتقول له: روح ع الشــام يا ابني» لكن هذا التطور وفقاً للباحث سيسهم لاحقا في ظهور طبقــة مواطنين علويين أفضل تعليما وأكثر غنى ونفوذا سياســياً، ما ســيؤدي إلى تراجع معــدلات الإنجاب في السنوات العشرين الأخيرة مقارنة ببعض مناطق الداخل السني )القلمــون( وهــذا ما عنــى اســتنزاف المصدر الأساســي للدعم الديموغراف­ي والعناصر العسكرية، الأمر الذي يفسر برأيه سبب اعتماد النظام على مقاتلين أجانب بعد الانتفاضة الســورية. في باقي أوراق الكتاب، ربما ليس هناك من جديد، بالنســبة لمعرفتنا اليوم حول علويي ســوريا، في أوراق هينبوش وكارستن ويلاند «العلويون في المعارضة» أو ورقة أرون لوند «ظاهرة الشبيحة.»

وتبقــى من الأوراق اللافتة في هذا الكتاب ورقة راينود ليندرز «القمع ليس شــيئا غبيا» الــذي قدم فيها فكرة مخالفة للســائد، تقول إنّ النظام لم يكن ساذجاً أو مجنوناً في قمعه للمتظاهرين، بــل كان مــدركاً ومنــذ اللحظات الأولــى لأهمية العنــف في قمع الاحتجاجــ­ات، حتى لــو أدت إلى ردات فعل مســلحة، لأنه أدرك أنّ احتمال إســقاطه عبــر الجماهير أكبر بكثير من ســقوطه على يد المتمردين المسلحين. ويبقى الكتاب مهما وواجب القراءة، رغم قصوره في معرفة واقع العلويين اليوم في سوريا. ٭ كاتب سوري

 ??  ?? حافظ الأسد وعائلته في السبعينيات
حافظ الأسد وعائلته في السبعينيات
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom