Al-Quds Al-Arabi

«أبو زنيمة» و«ناحل»... في 1971: الكشف عن معسكرين سريين أقامتهما إسرائيل بصحراء سيناء لنفي أبرياء غزة وتعذيبهم

عقاباً لأهالي المنضمين لحركة «فتح» ورسم سياسة تستهدف العاطلين عن العمل و«تخفيف» القطاع من أهله

- عوفر اديرت

■ في العــام 1971، بعيداً عن عيــون الجمهور وتحت غطاء شديد من الســرية، أقامت إسرائيل في شبه جزيرة ســيناء معســكرات اعتقال تم نفي أناس أبريــاء إليهما. اســتخدم الأول لأبناء عائلات أعضاء حركــة فتح الذين اتهمــوا بالإرهاب، والثاني لشــباب عاطلــن عن العمل. أطفال ونســاء وشــباب نقلهم الجيش الإســرائي­لي من قطاع غزة ووضعهــم في هذه المنشــآت المرتجلة في قلب الصحراء، معزولين ومقطوعين عــن حياتهم. مكثوا هناك لفترات متغيرة، أحياناً بضعة أشــهر، في ظروف وصفها الصليب الأحمر بأنها «لا تطاق». ومع مرور أقل من ســنة، تم إغلاق هذه المعســكرا­ت وأعيد المعتقلــو­ن إلى القطاع. بقيت محاضر النقاشات التي تناولت موضوع معسكرات الاعتقال «سرية» طوال خمسين سنة، وظل عدد منها لفترة أطول من ذلك. «هآرتس» تكشف قصة هذه المعسكرات.

تحقيق شــامل في أرشيف معهد «عكفوت» للتحقيق في النزاع بين إســرائيل والفلســطي­نيين، والوثائق والصور التي تم العثور عليها في أرشــيف الجيش وفي أرشــيف الدولة وفي أرشــيف الصليب الأحمر، تمكن من تتبع إقامة المعســكري­ن وإغلاقهما. معسكر أبو زنيمة أقيم على شاطئ خليج السويس، فيما أقيم معسكر ناحل )النخيل، نقلاً عن العربية( في وسط شبه جزيرة سيناء.

بعــد احتلاله في حرب الأيام الســتة، اعتبر قطاع غزة «عش دبابير» نشــط، خرجت منه عمليــات إرهابية ضد اليهود من سكان إســرائيل. وقتل إلى جانبهم أيضاً عرب من ســكان القطاع الذين اتهموا بالتعاون مع إســرائيل. ولكن في كانون الثاني 1971 تم الوصول إلى نقطة الغليان عند قتــل مارك وافيغيــل ارويو، أبناء 5 و7 ســنوات من «كريات أونو». كانت العائلة عائدة من رحلة في مستوطنة «ناحل يم» في شــمال ســيناء عندما ألقى شاب فلسطيني عليها قــرب مدينة غزة. قتل الولدان وأصيبت الأم. أصداء العملية، بسبب هوية الأولاد، جعلت إسرائيل تتخذ قراراً بالرد الشديد. أُرسل أريئيل شارون، الذي كان قائد المنطقة الجنوبية في حينه، لـــ «تصفية الإرهاب». والعملية التي نفذت بين العام 1971 ومنتصف العام 1972 شملت نشاطاً لوحدات خاصة لاغتيــال المطلوبين وهدم البيوت وفرض حظر التجول والتفتيش. ولكن هذا ليس كل شيء.

تخبرنا عــدة وثائق تاريخيــة عن إقامة معســكرات الاعتقــال، وأحدهــا محضر لقــاء أجراه المنســق الأول لنشــاطات الحكومة في المناطق، الجنرال شلومو غازيت، الذي أصبح بعد ذلك رئيس قســم الاستخبارا­ت، مع قادة كبار مــن وزارة الخارجية فــي مكتبه. فــي المذكرة التي وثقها ممثل وزارة الخارجيــة، تم تفصيل الخطوات التي اتخذها الجيش لاســتئصال الإرهاب والتي تضمنت إقامة المعسكرات إلى جانب الاعتقالات والإغلاق وحظر التجول. حتى الآن، يرفض أرشــيف الجيش الإســرائي­لي الكشف عن أســاس توثيقه. ولم تذكر في حينه مشــاركة رئيسة الحكومة غولدا مئيــر، مهما كانت أهميتها في أي وثيقة في الأرشيف.

أقيم معســكر أبو زنيمة في 5 كانون الثاني 1971، على بعــد 300 كيلومتر جنــوب مدينة غزة. وهو يحمل اســم البلدة التي أقيم فيها في جنوب غرب سيناء، على الشاطئ الشــرقي لخليج الســويس. بعد فترة قصيــرة، نُقل إليه المعتقلون الأوائل، 59 شــخصاً من أبناء عائلة فلسطينية واحدة. في الشــهر نفســه، عندما التقــى ممثلو الصليب الأحمــر مع غازيت وعبــروا عن قلقهم من تهجير ســكان القطاع، أشــار إلى أن في المعســكر معتقلين من عشــرين عائلــة. وأوضح لهم بأنها عائلات طردت من غزة بســبب «دعمها للإرهاب». في نهاية الشــهر، ارتفع عدد العائلات إلى 27، وفيها عشرات الأولاد.

فــي 26 كانــون الثانــي، أبلــغ غازيت أعضــاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست عن هذا الأمر. وعرض عليهم النشاطات التي تنفذها إسرائيل في القطاع، والتي شملت -حسب قوله- «وســيلة ثالثة» وهي تهجير أبناء العائلات.

«لأن العائلة تقدم ملجأ وتســاعد وتســتخدم كوسيلة تحذير للإرهابي، ولأنه في منطقــة مخيمات اللاجئين، لا يمكن الدخول للتفتيش دون أن يكون أمام الإرهابي فرصة للقفز والاختفاء، أخذنا حتى الآن 27 عائلة لمطلوبين وقمنا بتهجيرهم من أماكن ســكنهم ونقلناهم إلى ســيناء، إلى أبو زنيمــة. نحرص على أن يكون في كل عائلة كهذه «على الأقل شــخص واحد بالغ لئلا نضطر إلى التعامل مع نساء وأطفال فقط .»

وزير الدفاع في حينه، موشيه ديان، قال إن التهجير لا يعتبر عقاباً، بل هــو ردع لعائلات أخرى. «هذا ليس لأنهم يقدمون ملجأ أو يساعدون المطلوب على الاختباء، بل لأن العائلة الثانية لا ترغب في أن ينضــم ابنها لحركة فتح،» قال . «هذا بالضبط مثل هدم البيوت. نقوم بهدم البيت حتى

لو كان عضو «فتح» مستأجراً، وصاحب البيت لا يعرف عن ذلك. وما يعرفونه في الخليــل ونابلس أو في غزة هو أنه إذا انضم شــخص ما لحركة فتح، فسيهدم البيت في نهاية المطاف. وفي حالتنا هذه، سيتم تهجير العائلة «.

أوضح ديــان بأن «هذه وســيلة الــردع الأفضل التي نملكها»، وشــرح: «نأمل أن هــذه العائــات التي انضم أولادها لـ»فتــح» في نهاية الأمر ســيقول الوالد فيها: إذا ذهــب أحد الأبناء إلى فتح فســيهجرون­نا إلــى أبو زنيمة جميعاً».

وأوضح بأن هذه الوســيلة تســتخدم فقط في الحالة التي لم يتــم فيها اعتقال المطلوب. «هــذا ما يحدث عندما لا ننجح في اعتقال الشــخص نفسه. لأنه إذا اعتقلناه فلا نأتي إلى العائلة ونشتكي من إخفائها له»، قال ديان.

عضو الكنيســت جدعون هاوزنر، المستشار القانوني الأســبق للحكومة، انتقد إخلاء العائلات، وقال: «أســأل عن إخــاء أبناء العائــات. الحديث لا يــدور عن عائلة نعرف أنها ســاعدت بالفعل ابن العائلة المخرب، بل يدور عن عائلات مطلوبين، نفترض أنها ســاعدت المخربين على الاختباء. أعتقــد أن إخلاء هذه العائلات، رغم فائدة ذلك، وكأننا نغلق أمام المخرب إمكانية الاختباء والحصول على المساعدة، ستكون النتيجة خاسرة. في الوقت الذي يكون فيــه دليل على أن عائلة قدمت غطاء كهذا، يجب فعل كل ما يمكن ضدها. ولكن إذا تعلق الأمر بعائلة مشــتبه فيها فهو أمر خطير».

في شــباط 1971 ســمحت إســرائيل لأعضاء الصليب الأحمر بزيارة المعســكر. التقى أعضاء الوفد مع ممثلي 23 عائلة، 140 شخصاً، من بينهم 87 طفلاً، جميعهم من سكان القطاع. فــي مذكرة لمقر المنظمة في جنيــف، كتب الممثلون بعد الزيارة: «كل ذنب هؤلاء الأشخاص هو أن شخصاً من أقربائهم اعتبر إرهابياً. ولكن الطفل ابن الســبعة أشهر أو الأم ابنة الثمانين هل يمكنهم فهم ســبب وجودهم هناك؟». وأضافوا: «المشــكلة الأكبر هي الحالة النفسية. الناس هنا يأملون بأن يكون إخلاؤهم مؤقتاً».

بعد ذلك، التقى ممثلو الصليــب الأحمر مع غازيت مرة أخرى وعبــروا له عن قلقهــم مما اعتبــروه ظروفاً «غير محتملة تقريباً» في المعســكر. ورد عليهم غازيت بأن «هذه العائلات معزولة لمنعها من تقديم غطاء لأقربائها المطلوبين لعلاقتهــم بالإرهــاب». وقد أوضــح بأنها وســيلة ثبتت فعاليتها في اعتقال المطلوبين، وأنــه بعد اعتقال المطلوب سيطلق سراح أبناء عائلته من المعسكر ليعودوا إلى غزة.

وأضاف أنه على خلفية نجاعة هذه الطريقة، لم يتم تحديد موعد لوقف استخدامها.

بعــد زيارات أخرى لمن تم تهجيرهــم، أبلغ أحد موظفي الصليــب الأحمر بأنــه «مصدوم من عدم رحمة ســلطات الجيش الإســرائي­لي تجاه هذه العائلات». وحسب قوله، تسع عائلات موجودة هناك منذ أشــهر طويلة، حتى بعد أن ثبت بــأن أقرباءها المطلوبين غــادروا القطاع وتم هدم بيوتهم. «يبدو أن شــلومو غازيت أو اريئيل شــارون هما المســؤولا­ن عن هذه السياسة. من يســتطيع التأثير على المسؤول عنهم، موشيه ديان، في هذا الأمر؟»، سأل رئيس وفد الصليب الأحمر في سيناء. «الموظفون الإسرائيلي­ون الآخرون الذين التقينا معهم يعارضون هذه السياسة».

حمل معســكر «ناحل» أيضاً اسم البلدة التي أقيم فيها، والتي تقع وسط شبه جزيرة سيناء على بعد سبع ساعات ســفر عن مدينة غزة. وقد تم تخصيصه للشباب العاطلين عن العمل، الذين لم يتم اتهامهم بأي شيء. «عملية أخرى قمنا بها، ربما تكون متطرفــة أكثر»، قال غازيت في نقاش أمام أعضــاء لجنة الخارجيــة والأمن. «هــي عملية ضد العاطلين عن العمل».

«هناك تقريباً 10 آلاف شخص، الذين هم في الواقع غير مرتبطين بدائرة العمل. عدد كبير منهم، أو معظمهم، هم في أعمار 18 – 30، وأنهوا الثانوية دون إيجاد حل ولا حل لهم. لأنهم اعتادوا على الخروج لإكمال دراستهم في الجامعات، والآن أغلقوا أمامهم هذه الأبواب»، قال غازيت للجنة. وقد برر إرســال مئات الأبرياء إلى معســكر اعتقال في وسط الصحراء، وقــال: «إن التجول الحر لهؤلاء الشــباب في الشوارع هو مدخل يستدعي تجنيدهم للتنظيمات. وأيضاً تشــكل خطر حقيقة أنهم يتجولون في الشوارع الرئيسية ويطلقون النــار ويلقون القنابل أو يقومون بأي نشــاط آخر».

بناء على طلب معهد «عكفوت»، كشــف أرشيف الجيش الإســرائي­لي ملفات مرتبطة بنشــاطات معســكر ناحل. المعلومات التي فيها هامشــية في أساســها، لكنها تسمح بإلقــاء نظرة رســمية على ما حدث هنــاك. يتبين أن هذه النشــاطات شــملت تدريباً مهنياً قدمه ســكان مخيمات اللاجئين فــي القطــاع ومديرهم الإســرائي­لي، في مجال البناء. في التقرير الذي كتبه مدير «مركز التدريب» يتبين أن الـ 161 معتقلاً في المعســكر كانوا في معظمهم من أبناء 16 – 21، وهم طلاب ليس لديهم مهنة.

وتطرق نائــب مدير عــام وزارة الخارجية، موشــيه

ساســون، إلى هذا الموضوع في مذكرة أعدها، كتب فيها أن هدف نشاطات إسرائيل هو «تعويق نشاطات المخربين في القطاع عن طريق خلق ضغوط مختلفة». ومن الوســائل التي عدها «الضغط على كثير من سكان المخيمات الذين لا يتعلمون ولا يعملون، بهدف تشــجيعهم على الانتقال إلى حياة إنتاجية في يهودا والسامرة». وحسب قوله، «هؤلاء الأشــخاص العاطلون عن العمل ويتسكعون في مخيمات اللاجئين، سيعتقلون إدارياً ويرسلون إلى معسكر اعتقال في شبه جزيرة سيناء. ويستطيعون التحرر من المعسكر إذا أظهروا الرغبة في الانتقال إلى يهودا والسامرة والعمل هناك. من المرجح أنه في اليومين الأول والثاني ســيعتقل 100 – 200 شــاب، وبعــد اعتقالهم ســيعرف العاطلون الآخرون أنه يمكنهم إنقاذ انفســهم من الاعتقال إذا ذهبوا للعمل في يهودا والسامرة».

إن الاطــاع على هذا البند جعل أعضاء معهد «عكفوت» يشكون بأن الأمر يتعلق بشهادة مكتوبة عن استراتيجية إســرائيل لتخفيف عدد ســكان قطاع غــزة. «منذ احتلال القطاع في 1967 عملت إســرائيل بطــرق مختلفة من أجل تقليل عدد اللاجئين فــي القطاع»، قال المدير العام للمعهد، ليئور يفني. وفي الوقت نفســه، المزاج العام في أوســاط واضعــي السياســات هو ضم القطــاع لدولة إســرائيل مســتقبلاً. لذلك، يجب فعل كل شيء ليظل فيه العدد الأقل من اللاجئين الفلسطينيي­ن». وحسب قوله، «تم تخصيص معســكر ناحل لمنح الشباب الغزيين تأهيلاً مهنياً في مجال البناء وتشــجيعهم على الموافقة على الانتقال إلى الضفة الغربية مقابل إطلاق سراحهم من معسكر الاعتقال».

أغلق المعسكران في السنة نفســها. وأعيد كل المعتقلين في أبو زنيمــة إلى قطاع غزة. ولم يحقق معتقلو ناحل أمل الإســرائي­ليين ولم يظهروا أي اهتمام بالهجرة إلى الضفة الغربية. إجمالي النشــاطات لاستئصال الإرهاب ثبت أنه ناجع بالنسبة لإســرائيل: خلال 15 ســنة تقريباً وحتى اندلاع الانتفاضة الأولــى في 1987 تم الحفاظ على الهدوء النسبي في القطاع.

«طرد أبناء العائلة النووية –كما كتب في أقوال التبرير لمشروع القانون- لا يوجد أي شك في أنه سيستكمل رزمة الردع التي ستردع مخربين وتجعل أبناء عائلات المخربين يمنعــون أبناءهم من تنفيــذ عمليــات. وتهجير عائلات المخربين سينقذ حياة مواطني إسرائيل».

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom