Al-Quds Al-Arabi

خطة قيس سعيّد

- hotmail.com@Kandel2002 * كاتب مصري

مــا جرى ويجــري في تونــس ليس انقلابا، اللهــم إلا إذا كانت جماعة بذاتها، تعتبر أن وجودها فــي الحكم ثورة، وأن خروجها منه انقلاب، وفي ذلك ما فيه من مجافاة وازدراء للحقائق الصلبة، فالرئيس قيس سعيّد المتهم جزافا بتنفيذ انقلاب، هو الأعظم شعبية بما لايقاس لغيره فى تونس اليوم، وقد حصل في انتخابات أكتوبر/تشــرين الأول 2019 على نحو عشرة أمثال المصوتين لغريمته حركة «النهضة» ذات الجذور الإخوانية.

والمعنى ببســاطة، أن الشعب التونســي أراد قيس سعيّد بأكثر ممــا أراد اختيار أي طرف آخر، برغم أن ســعيّد كما هو معروف، أســتاذ قانون دســتوري، لم ينضم فــي حياته إلى حزب ولا جماعة، وبدا في صورة التونســي العادي، المختلف في حديثه علــى الدوام باللغة العربيــة الفصحى، النزيه إلى أبعد الحدود، فقير الإمكانيات الماليــة إلى حافة الكفاف. وكان طلابه هم قادة حملته الانتخابية، أداروها من شــقة مستأجرة متواضعة، ورفض الرجل تلقي المنحة المالية المقررة من الدولة لمرشــحي الرئاســة. وكان يمشــي على قدميه بين الناس في الشــوارع والأســواق، ولم يعقد مؤتمرا انتخابيا واحدا، ومع ذلــك فاز بالمركز الأول فــي انتخابات الرئاســة، وأقصى «عبد الفتاح مورو» مرشــح حركة النهضة، الذي حل ثالثا بعد رجل الأعمال نبيل القروي، في حين حل الرئيس الأســبق «المنصف المرزوقــى» في ذيل القائمة، وبنســبة أقل مــن نصف في المئة. وفي الجولة الثانية كانت المواجهة الحاســمة بين سعيّد الفقير و»القــروي» الذي هو من أغنى أغنيــاء تونس، والمتهم لا يزال بوقائع فساد متراكمة، وكانت المفاجأة الانتخابية التي لم تكن مفاجئة، فقد كانت نســبة التصويت هي الأعلى فيما شــهدته تونس، وفاز ســعيّد بأكثر من ثلاثة ملايين صــوت انتخابي، وحصد ما فاق ثلاثة أرباع إجمالي الأصوات، فقد حملته موجة شــعبية هادرة حالمة بتغيير ثوري حقيقي، وقد وصفت الرجل فيما كتبت وقتها بأنه «قيس تونس»، ربما في إحالة رمزية إلى دراما «قيس وليلى» المشــهورة في التراث العربي القديم، وهي واحدة من قصص الحب الأسطورية، التي لا تتوج أبدا بخاتمة زواج. ووجه الشــبه، أن قيس ســعيّد الأكثر شــعبية ومحبة في أوســاط التونســيي­ن، قد لا تمكنه صلاحياته المحدودة في الدســتور، أن ينفذ حلمه وأحلام الذين انتخبوه، وربما كانت هذه هي المحنة، التي حاول سعيّد الخروج من أسرها بقراراته الأخيرة فــى 25 يوليو/تمــوز 2021، من نــوع إقالة الحكومة وتجميد البرلمان ورفع حصانــات النواب، التي يحلو لبعضهم وصفها بالانقلاب على الدستور.

ومن حق الشعب التونسي وحده أن يحسم رأيه في قرارات قيس سعيّد، وقد اتخذها بعد وقت طويل من الصبر، ومن شلل عمل المؤسسات، ومن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة، ومن مــآس مضافة، بانتشــار مريــع لجائحــة كورونا، ومن تضاعف أرقام البطالــة، وتراكم ديون تونــس إلى ما يجاوز إجمالي ناتجها القومي، ومن انكماش الاقتصاد بنســبة % 8.6 فــي العام الأخيــر وحده، ومن تفشــي الفســاد بغيرردع ولا حساب، والعجز المفزع لبرلمان معلق مشتت، لا يحظى فيه حزب بأغلبية مطلقة، وتجري فيه المساومات والصفقات على نحو لا يعرف طعما للمبادئ المعلنة، ويجمع حزب النهضة )الإسلامي( مع حزب نبيل القروي الموصوم بالفساد في تحالف وثيق، وبما انتهى بتونس إلى حال خطر داهم، رأى معه الرئيس، أن يطبق نص المادة )80( من الدســتور، وبتفســيره المختلف عليه مع آخرين، فى غياب «محكمة دســتورية» كان يمكن اللجوء إليها. ولم تقم إلى الآن بعد ســبع ســنوات من إقرار دســتور 2014، وكان يتعين إقامتها في غضون عام من ســريان الدستور، ولم يقم الرئيس ســعيّد بحل البرلمان، بل جمده لمدة شــهر واحد، ومــن دون أن يعني ذلك نهاية القصــة، فمن حق الرئيس طبقا للدســتور، أن يحل البرلمان في حالة وحيدة، إذا أخفق البرلمان في منح الثقة للحكومة، وهو ما يبدو واردا إذا ما امتنع البرلمان عن منح الثقة اللازمة لحكومة جديدة، يشكلها الرئيس بنفسه حسب قراراته، أو إذا ما تطور الموقف إلى أسوأ، ولجأت أطراف بعينها إلى إثارة عنف اعتراضــي، قد يضطر الرئيس إلى الرد عليه، استنادا إلى قوة الجيش والأجهزة الأمنية، وإلى أغلبية شعبية ظاهرة متحمسة لقرارات الرئيس الأخيرة، تضم أغلب النقابات ومنظمــات المجتمع المدني النشــيطة، وبينها «اتحاد الشغل» أكبر منظمة نقابية اجتماعية مؤثرة في تونس.

ومفارقة الرئيس قيس سعيّد تبدو ظاهرة، فهو الرجل الذى استخف به السياسيون المحترفون، وظنوا أنه سيكون رئيسا بروتوكوليا، يكتفي باســتقبال الضيوف فــي «قصر قرطاج،» ويوقع ما يصله من قوانين ومراسيم. لكن الرجل خالف مؤدى الظنون المســبقة، ورفض الترويض، وتوســع في تفسير كل صلاحيــة منحها له الدســتور، وتمســك باختصاصات الأمن القومي والدفاع والعلاقات الخارجية، واســتثمر عجز «حركة النهضة»، أكبر الأحزاب تمثيلا نســبيا في البرلمان، عن تشكيل حكومة وتعيين رئيس وزراء من جهتها، وســقوط مرشــحها الأول «الحبيب الجملي» في امتحان الثقة البرلمانية، لتتشــكل بعدها حكومتا إلياس الفخفاخ ثم هشام المشيشى، الذي تورط في صدام مع الرئيس بدفع مــن حركة النهضة وحلفائها، وإلى أن أطاح الرئيس بالجانبين معا، مســتفيدا من المزاج الشعبي العام، الذي ينظر بازدراء للبرلمان الفوضوي، ولحكومات عشر تعاقبت بعد ثــورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، ومن دون أن تفهم الجانب الجوهري فــي مغزى الثورة، التي تحققت بعدها لتونس كثير من مظاهر الحريات المدنية والسياسية، ولكن مع تدهور اقتصادي واجتماعي فادح، فاقم آلام أغلب التونسيين. فقد قامت الثورة بشعلة «محمد البوعزيزي»، الشاب الجامعي الذي اضطر للعمــل كبائع متجول، وصــادروا عربته اليدوية بما عليها من فواكه وخضروات، فأشــعل النار في جسده بعد صفعة إهانة شــرطية، وإلى أن صعدت روحــه إلى بارئها قبل عشــرة أيام من انتصار الثورة الشــعبية، وهروب الدكتاتور «زين العابديــن بن علي». كان المغزى فيما جــرى، أن التنمية الاقتصادية الإنتاجية والحقوق الاجتماعية لها الأولوية المطلقة عند الملايين، وهو ما لم يكن واردا في حساب الطبقة السياسية التي تشكلت بعد الثورة، وفي حلف مرئي مع طبقة سياسة «بن علي»، وهو ما بدا فاقعا في تحالف «راشــد الغنوشــي» زعيم النهضة مع حــزب «نداء تونس» لمؤسســه المخضرم «الباجي قايــد السبســي»، وقد كان الأخيــر من أكبر أعــوان بن علي، واستثمر السخط الشعبي على حكومات النهضة و»الترويكا» الت أعقبت ثورة 2011، وكون حزبه من موارد شــتى مختلفة،

واستطاع خطف المركز الأول في برلمان 2014، وجعل «النهضة» حليفــا أصغر، اكتفى بتمكين أعضائه وأنصاره في مؤسســات ووظائف الدولة، فقد جرى عبر سنوات تعيين 150 ألف موظف إضافي فــي دولاب الدولة، ومن دون أن يفيد تفكك حزب «نداء تونس» فيما بعد، وحتى قبل وفاة السبسي الذي شغل منصب الرئيس، ولم يفد تفكك حزب النداء فى صحوة شــعبية لحركة النهضة، التي جاهد الغنوشــي لنفي صفــة «الإخوانية» عنها. الغنوشــي الذي بدأ حياته السياســية ناصريا، ثم تحول إلى «الإخوانية» في ســبعينيات القرن العشرين، وأنشأ «الجماعة الإســامية»، التي تبدل اســمها فيما بعد إلــى حركة «الاتجاه الإســامي»، ثم إلى حركة النهضة، التي وصفها قبل ســنوات بغيــر الإخوانية، وأنها صــارت بعيدة عن حركات الإســام السياسي بعامة، ربما في محاولة للإفلات من مصائر محتومة، عاد ليواجهها اليوم، بعد التدني المتواصل لشــعبية حزبه عبر السنوات العشــر الأخيرة. وكان حزب «النهضة» قد فاز بنحو المليون ونصف المليون صوت فــي أول انتخابات بعد الثورة، تراجعت إلى أقل من الثلــث في انتخابات أواخر 2019، وهو ما يدرك مغزاه الرئيس الذي يبني حزامه السياســي من أصوات مؤيديه الســائلة، ومــن حيازته لتأييد أحــزاب أهمها «التيار الديمقراطي» و»حركة الشــعب» الناصرية، تجعل سعيّد راغبا في دفع التطورات التونســية إلى انتخابات مبكرة، بعد تنظيم محاكمات لأمراء الفســاد، وبعد إجراء استفتاء على تعديلات دســتورية، تعزز مكانــة وصلاحيــات الرئيس فــي النظام السياسي. وهذا فيما نظن، هو رهان الرئيس، الذي قد لا يسعى متعجــا إلى إصدار قرارات من نوع حــل «حركة النهضة»، بل يريد العودة للشــعب، ويترك القرار للمصوتين التونســيي­ن. وفى ســياق ما تحدثنا عنه مبكرا قبل نحو ســنتين، قلنا وقتها وبالعامية المصرية أن «تونس هتعيد الســنة»، أي أنها ستعود لثورة جديدة بحثا عن تصحيح ممكن، وها هي تونس تفعلها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom