Al-Quds Al-Arabi

ما الرأي في الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي مؤخرا؟

- ■ ٭ كاتب من مصر

في ختام شــهر تموز/ يوليو، وبعد أن تقيأ الرافضون للثورة والعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية والكرامة الإنســاني­ة؛ تقيــأوا ما فــي بطونهــم مــن أوراق اعتماد يُقدمونها لإعــان التبعية والولاء لواشــنطن وتل أبيب، وباقي المنظومة الصهيو غربية وأغلب الحكومات المعادية، هذا في وقت يتصور فيه البعــض أن مصر كتلة صماء؛ بلا إنفعال أو مشــاعر، ولا تتأثر بما يجــري فيها وحولها؛ من تدجين وتطويع وتطبيع، مع الاعتياد على حصار السلطات للمواطــن، وفرض الخيــار الأوحد عليه؛ الخيــار الصهيو غربي، وتعميمه على دوائر رسمية وشبه رسمية وشركات ومؤسســات وهيئات؛ من كل لون ونوع، وهي مرحلة أعلى من العنصرية؛ اســتقرت في قصور الُملك والحُكم، وأحكمت قبضتها علــى صناع القرار ومنفذي المشــاريع غير المجدية والعشوائية.

ومثل هــذه البيئة صالحــة ومهيأة لنشــر أوبئة وعلل طائفية ومذهبية وانعزاليــ­ة؛ مهتمها جمع وتنظيم وتمويل أمراء وشــيوخ الفتن، واختبار قدرتهم على العمل المباشــر وغير المباشر لإشعال النيران والصراعات المفتوحة لإعاقة كل ما له علاقة بالاستقلال الوطني والقومي، وإفساد ما هو جامع، وعاصم للإنســان العربي مما هو مخطط له، وإفراغ العقول من الأهداف الســامية والمحتــوى النبيل، ويقتصر التركيز على جنــي المال والثروة؛ من أي مصدر؛ مشــروع أو مُجَــرَّم، وأكبــر دليل على ذلك هو ما جــرى في الجزيرة العربية والخليج، من الاســتثما­ر في العنصرية والحروب، والقبول عن رضا بتطبيق كل ما هو عاد للإنسان والتاريخ والمســتقب­ل، ويقبلون علــى ذلك برغبــة جامحة وحماس منقطع النظير، وتســابقوا نحو التصفيــة المتعمدة لكل ما له علاقة بقضية فلسطين وشــعبها، دون استنكار التنكيل والإبادة والتهجير القسري.

وكانــت النيــة معقودة علــى تناول الخطــر الانعزالي البادي مــن تصرفات وأعمال «المشــير السيســي» وبيان الفرق بين رحابة واتســاع مجــالات وآفاق خمســينيات وستينيات القرن العشرين، وبين الجنوح بعيدا والتماهي مــع الأعداء، والتفوق على من ســبق، وفــي مقدمتهم أنور الســادات وقرينته، التي أقام لها «المشير السيسي» موكبا جنائزيا فاق موكب إعادة دفن الملــوك القدماء الذي تم من شــهور، وهما من فتحا بابا واســعا أمام الرياح الأمريكية العاتية والأعاصيــ­ر الصهيونية المدمرة؛ بدءا من مباحثات

فك الاشتباك الأول عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

وتأتي أحداث تونــس فتتحول إليها أنظار العالم؛ تتابع ما يجري فيها، وأجد من الضروري قول كلمة عنها؛ قد تلقى ضوءا وتفســر جوانب قد تكون قد غمضــت على كثيرين، ونبدأ بموقف شبه عام في مصر لا ينكر فضل تونس في فتح باب الثورة والتغيير؛ بطابعه الشــعبي والثوري الأصيل نهاية 2010، وبســرعة البرق انتقلت الشعلة إلى كل أنحاء مصر بعد أســابيع قليلــة مطلع 2011، لكن رغــم الطوفان الجماهيري الكاســح عانت الثورة المصرية انتكاسة حادة؛ صنعها من استفاد من الثورة الموءودة، وجلس على مقاعد الســلطة العليا بعد الموجة الثورية الثانيــة في 30 يونيو، وتمثلت الانتكاســ­ة في تمكــن الدولة القديمــة التي كانت تترنح؛ من وأد ثورة شــعبية فريــدة، وقد لعبت المخابرات الحربية بقيادة «اللواء عبد الفتاح السيسي» وقتها؛ لعبت دورا كبيرا في إجهــاض ثورة يناير العظيمة، ثم اســتدار على ثــورة 30 يونيو/حزيــران 2013، وتعامل معها بنفس الطريقة، ويُرَكّز حاليــا على يوم 3 يوليو/تموز 2013، وأقل وصف لذلك الدور أنه تغيير مضاد؛ مكنه بمعونه الرئاســة الانتقالية التــي تولاها رئيس المحكمة الدســتوري­ة العليا المستشــار عدلي منصور، وتمكن «المشــير» من التحكم في مفاتيح ومغاليق دواليب الدولة والحكم.

والســؤال هل ما جــرى في تونــس كان متوقعا؟ والرد بالإيجــاب.. فالرئيس التونســي بدا حكمــه مغردا خارج الســرب، الذي جمع حزب «النهضة» وعدة أحزاب صغيرة، لها حســاباتها في التعامل مع الخارج في لندن وواشنطن وتركيــا وباريس وتــل أبيب، ومع ذلك صبــت تصريحات الرئيس التونســي منذ اعتلاء كرســي الرئاســة في قناة التأييد الواضح للقضية الفلسطينية، في زمن عربي مصهين وغيــر مُــوَاتٍ، وبادر أثناء هبــة القدس فــي مايو الماضي (2021( واتصل باســماعيل هنية رئيس المكتب السياســي لحركة «حماس»؛ مؤكــدا على موقفه الثابــت: «أن تونس لن تدخر جهدا للوقوف إلى جانب الأشــقاء الفلســطين­يين لاسترجاع حقهم المسلوب والذى لا يمكن أن يكون موضوع صفقات أو أن يسقط بالتقادم مهما اشتد الظلم والعدوان… وأشــار إلى أن أكبر خطر يتهدد الحق الفلسطينى هو ثقافة الهزيمة والاستســا­م؛ داعيا إلى وحدة الصف في الداخل» ومثل هذا القــول في هذا الزمن المعتل يســتوجب العقاب، الذي قــد يصل إلى حــد التدخل الصهيو أمريكي فرنســي المباشر لإسقاطه.

وذكرت بعض المصــادر أن «النهضة» قد تمكنت بالدهاء فــي التعاطي مــع الوضع الجديد. وتســللت إلــى مفاصل الإدارات التونســيّة. وتدهور مستمرّ للأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ــة، وللفوضــى الإدارية الواســعة. وانتشــر البؤس والتخلّف، وأشارت كثير من الأصابع إلى مسؤولية «النهضــة» الفعلية عن ذلــك، وبدأت تونــس تعيش أزمة اقتصادية حادة منذ الاستقلال عام 1956.

ووطنية ومبدئية رئيس الجمهورية التونسية لا تعيبه، والعيــب هو فــي التلون حســب الطلب، وفــي الأكل على كل الموائــد، والتربص بصاحب المبــدأ الوطني والأخلاقي والإنساني. وتاريخ الرئيس التونسي الأكاديمي والحقوقي يشهد على نزاهته واستقامته؛ عمل أستاذا بجامعة تونس، وأمينا عاما للجمعية التونســية للقانون الدستوري، فضلا عن شَــغْلِه منصب رئيس قسم القانون الدستوري بجامعة سوســة، وعمل خبيرا قانونيــا لجامعة الــدول العربية، وللمعهد العربي لحقوق الإنسان، وهذا رفع رصيده الوطني والسياسي والأكاديمي والشعبي، وزاد من وزنه بين العامة والمثقفين.

واتخذ قيس سُــعَيد من فلســطين بوصلة هادية له فيما يتخذ مــن مواقف وقــرارات، وذلك عكس، مــن يضبطون ســاعاتهم على التوقيت الفرنسي والأمريكي، أو توقيت تل أبيب، ونفذ تدابير قانونية ودســتورية وتنظيمية مكفولة بنص الدســتور، الذي منحه حق التدخــل، وحرص على تجميد مجلس النواب وليس حله، وهي الحدود المســموح بها دســتوريا لرئيس الجمهورية إذا ما واجه أزمة أو ظرفا استثنائيا.

والسؤال الذي بدا أكثر تداولاً: هل ما قام به سُعَيِّد يؤكد مســار الثورة التونســية الذي ألهم الشــباب العربي على اختلاف أعماره، وتنــوع ثقافته وتعدد منابتــه وبيئاته، ولا يَنطبــق على ما قام به وصف «انقلاب على الدســتور» والأقرب إلى الصحة إنه عمل دســتوري استثنائي، يواجه الاحتمــال المتزايد للخطــر الطائفي والمذهبــي؛ في بلد لم يواجه مثل هذا الاحتمال من قبــل، وبدت القرارات ملائمة ومستجيبة لحراك متطلع للقضاء على الفساد؛ المتغلغل في أروقة الحكم والدولة.

وكثيرا ما لمح الرئيس التونســي إلى ممارســات حركة «النهضة» الإســامية؛ وهــي الامتداد التونســي للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وتبدو وقد أسكرها ما بدا ها من حضور بعــد ثــورة يناير التونســية، ولم تســع للاندماجه ومشــاركة القوى التونسية الحية؛ الجامعة للوطنيين والعروبيين والديمقراط­يين؛ لكنها أعطت أولوية مطلقة لمشــروعها الخاص، ولم تقبــل بالتعاون أو التنسيق مع المشــروع الوطني الجامع؛ سياسيا واجتماعيا وفكريا؛ على الأصعدة القوميــة والإقليمية والدولية كافة، ووالاقتراب من الدول والشــعوب العاملة من أجل التحرر والعدل الاجتماعي والديمقراط­ية والوحدة القومية.

هذا وطلبت الإدارة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، وقد بدأ بوصف الوضع التونســي بالأزمة؛ طالبا من الرئيس التونســي «احترام الديمقراطي­ة وإجراء حوار مع الأطراف السياســية» وتناســي العوار الأمريكي وجرائــم بلده ومآســيها، ومــا خلفت من قتــل ودمآر في فلســطين والعراق ولبنان وسوريا وليبيا، ودورها المخرب في أغلب أقطار «القارة العربية».. ولم يتصرف سُــعَيّد كما تصرف السيســي، المتجاوز للدســتور دوما، ويســتبدله بطلب تفويضات؛ شــخصية؛ تمثــل تحايلاوتجا­هلا، فطن اليه الجمهور واعتقد لن تتكرر!!.

واســتند الرئيس التونسي إلى الفصل 80 من الدستور، ويســمح بتدخل رئيس الجمهورية فــي «حالة خطر داهم » وعليــه اتخاذ «التدابير اللازمة لتلك الحالة الاســتثنا­ئية، واستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإعلام رئيس المحكمة الدســتوري­ة، ويعلن التدابيــر في بيان إلى الشعب» وهو ما تم بالفعل.

وأحدث ذلك دوياً مســموعاً، حســب تصريحات قوى وأطراف معارضة ومناوئة، والنص الدســتوري من وجهة نظرهم يحتمل التأويل، والتأويل فــي صالح الإجراءات،؛ وعمل تقديــري، وكان القلــق من الخطر الذي قد يشــكله رئيــس الحكومة ورئيــس مجلس النواب، فلم يستشــارا قبل اتخاذ الإجراءات، وغياب المحكمة الدستورية، وصرح رئيس الوزراء هشــام المشيشي إنه ســوف يسلم سلطاته إلى الشخص الذي يحدده الرئيس قيس سُعَيد، مؤكدا بذلك على رفض لعب دور «العنصر المعطل» فيما يحدث للبلاد في الوقت الراهن!!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom