Al-Quds Al-Arabi

شم الذكريات!

-

■ أكتب على ســند رقمي ملن يقرأ وميــر، وملن يتوقف ويجد في الكالم من احللو واملر، لكّن ما شّدني في ما كتبت أني ملا سلطت عليه نظري وجدت أن الكتابة ميكن أن تكون ورغما عنا بخلفية علمية. اســمعوا ما كتبت: ال أدري أين كنت؟ ولكــن يبدو أني عدت.. كنت حيث ال يكون املرء ال فريدا وال وحيدا.. ال مشحونا وال خفيفا، لكني كنت هناك في أقصى ما ميكن أن تصل إليه ســاق متعبة.. ال أدري كم مشيت وحدي في حشد من الوجوه واألصوات ومزيج األفعال، كانت متأل علي كوني الذي يباع بالغربة ويشترى بالوحدة.. أكثر شــيء كان يخرج إلي مــن الذاكرة هي العطــور.. رائحة األرض التي خزنتها وأنا صبي لها عطور من أرقى ما نبت في الســماء من العطور، كان أكثرها عبقا عطر األرض حني تكون عطشــى ويغدق عليها الوابل فيذكيها.

يعتقــد ذهني األعرج الــذي يريد أن يبني لكل شــيء علة أنها رائحة اجلنون بالفرح.. لســت متأّكدًا، ولكّني أظّن وأنا بني عقلي وجنوني إّننا حني نسكر بالفرح نرسل روائح ال يشمها إّال من أحب فينا الســكر مرة، واجلنون مرات.. رائحة الذين أحبهم تسكن في ذاكرتي هي عطورهم وهــم يضحكون وهم يبكون وهم يصرخون وهم يلعنون وهــم يصبرون.. رائحة الصبر عبقــة في أرواح من أحبهم، والســّيما حني يصبرون على زخم األّيــام وثقل ما حتمل أذهانهم الصغيرة من الهمــوم.. أرواح من أحب في أحلك مراحلها تعصر عبقا ســرمديا يقول لي وأنا أخزنه نحن يا أبي.. يا زوجي.. يا أخي.. يا ولدي.. يا حبيبي.. بألف عشق وبألف عطر.

ذاكرتي معطار ثالثــة أرباعها، أنواع من رحيق الذكريات.. فيها بناية كبرى شاهقة لعبق الكلمات.. أنا خزان ملا يعبق من العبارات، ولكني أيضا منتج ألرقى عطور املفردات... هكذا يقول لي العابرون في ردهات حياتي، وميضون فال ينتظرون ال جزاء وال شــكورا... ينتظرون في طريقهم زخات من عطور..

ال أدري أيــن كنت؟ رحلت بعيدا كما يرحــل الكافرون بالقبيلة، وهنــاك كان زادي عطوري.. هناك وأنا في كهف الســكينة هجمت علي عطوري وتضّوعت من كل فّج عميق، وأغرقتني وأنا في حدتي في ّضجيج الذكريــات. أصحو على أصوات باتــت صداي في كّل األرجاء حملُت منها أخف ما يحمل املسافرون: ما تضوع من عبقها في زجاج فاخر مــن الكلمات.. تقول لي وهي تــرّش ّمن عطورها على أصفر وجهي فيشرق: من هنا طريق العودة وتشير إلى أمكنة شتى تقود إلى املهجة.. شــغاف الذكريات.. صميم الكلمات.. قلب السابحات التائهات العائدات املنتظرات سفرا أكبر إلى الالمنتهى..

هذا النــّص ميكن أن يصّنف فــي خانة النصــوص اإلبداعية، وتصنيفه هــذا ال يرفعه وال يضعه وإ ّنما يص ّنفه. أن تص ّنف الن ّص هو أن تنســبه باعتباره عنصرا إلى جنس عــام ينتمي إليه. وما يزال اإلبداع عبارة غامضة، غير أّنها تستخدم في رّد كّل منتج أدبي أو فنــي راق إليه. غير أن احلديث عــن الكتابة مبا هي إبداع ليس فيه مقولة دقيقة، وال تصنيف مضبــوط. ففي النّص أعاله خلفّية علمية تربط بني حاســة الشــم والذاكرة ذات املدى الطويل. حني متّر بشخص يضع عطرا معّينا فإّنك ستتفاعل معه سلبا سيعجبك عطــره أو ال يعجبك، ولكــن حني مير بك من يضــع عطرا ويذكرك بشــخص كان يضعه ممن كنت تعرفه فهذا يعنــي أنك خزنت في ذاكرتك ذات املدى الطويل (أو الذاكرة احلافظة) كثيرا من أشــياء شــخص قريب منها عطره الذي مييزه. في أغلب احلاالت ســوف تقترن رائحة العطر تلك بتنشيط صورة الشخص في ذهنك، ومن املمكن أن تنخرط في حبل طويل من األفكار عن ذلك الشخص وتثير فيك الذكــرى عواطف متداخلة لن تكّف إّال بعد مــّدة. يرّد العلماء القدرة االستثنائي­ة التي للروائح على استحضار الذكريات إلى أن النظام الذي يعالج حاسة الشم قريب من مركز الذاكرة في الدماغ.

هناك فرق بــني التعرف على الشــيء برائحته واســتحضار األحداث وبنائها بعد شم تلك الرائحة. ميكن للرائحة أن تكون بعد تنشيطها في الذاكرة مدخال إلى تذكر األحداث واألشخاص الذين ارتبطوا بها. في هذا اإلطار يتنزل حديثي في النص اإلبداعي أعاله عن العطور التي خزنتها والعطور التي استحضرتها ومنها رائحة األرض.

يلقب العلماء قدرتنا هذه على اســتحضار الذكريات بالروائح باسم « تأثير بروست» ‪Proust effect‬ واحلق أن هذه التسمية تطلق على تأثير احلس بصفة عامة وليس الشم فقط على الذاكرة. فاملنبهات احلســية هي التي جتعل الذاكرة تنطلــق من غير دافع صريح إلى اســتحضار حلقات من األحداث املنســية. ينسب هذا املصطلح إلى الكاتب الفرنســي الشهير مارســيل بروست 1871( ـ )1922 ألنــه هو من اســتعمل عبارة قريبة من هــذا املعنى وهو الذاكــرة غير اإلرادية في روايته الشــهيرة «في البحث عن الزمن الضائع» وكنا في مقال ســابق قد حتدثنا عــن تذكر جدته مبذاق قطعــة املادلني. ونحن طبعــا لن نعود ههنا إلــى احلكاية القدمية إّال على سبيل املقارنة بني اســتحضار الكلمات للذاكرة عند القّص وعند استحضار احلس لها.

لأللفــاظ والعبارات صلــة بالذاكرة ذات املــدى الطويل فهي مخزنة فيها وأّي اســتعمال لكلمة، أو لعالقة إعرابية تتنّشــط في هذه الذاكرة. حني تقول لي هل تذكر عطر حبيبتك األولى؟ ويكون حلبيبتي األولــى عطر خّزنته فــي ذاكرتي فإّني ســوف أنخرط في ســياق من التذكر وأنــا أجيبك باقتضــاب أو بتفصيل عن هذا الســؤال الذي هو قادح لغوي مباشر للتذكر، ويختلف عن القادح غير املباشــر، قادح العطر في أن الذاكرة احلّسّية هي ذاكرة مثيرة ملــا يوجد فعال وقد خزن فيها فإن أشــم عطــرا يذكرني بصديقتي القدمية فذلك ال عالقة له بالســؤال الدافع الذي طرح علي ودفعني إلــى التذكر. فمن املمكن أال أتذكر عطرها وال وجهها ومن املمكن أنها لم تكن تضع عطرا أصال فمن أين لها وهي الفقيرة أن تشتري أرقى العطور؟ الســؤال الذي يطرحه علي من يريد أن يعرف هو سؤال يكــون التذكر فيه افتراضّيا؛ فمن املمكــن أال تكون لي حبيبة أولى أو من املمكن أني نســيت من تكون تلك احلبيبة األولى، وفي سياق كهذا تظل اللغة مدخال إلى ذاكرة افتراضية موجودة أو معدومة.

من املمكــن أن تقود الروائح أيضا إلى ذكريــات مؤملة؛ إذ بينت بعض الدراســات احلديثــة أن احملاربني القدامــى ميكن - وهم يقرنون بني روائح الدم وغيرها من روائح احلرب - أن تكون لهم انفعاالت مؤملة وهم يتذكرون شيئا من تلك احلرب. لكن ميكن أيضا لرائحة العطور الراقية أن تثير في من يشــمها ذكريات مؤملة حني يتعلق األمر بفــراق حبيب باحلياة أو باملــوت: ال أحد يتحكم في التداعي الذي حتدثه الروائح وال املشاهد على ذاكراتنا وما ترتبط به من عواطف.

هذه نبضة عن اخللفية العلمية التي تقف وراء النص اإلبداعي الذي صدرت به هذا املقال خالصتها أّننا ميكن أن نشـّـم الذكريات. شــم الذكريات هــي عبارة اســتعملها بعض املتحدثــن­ي عن» أثر بروست» وهي عبارة تربط بني الفعل املثير واستجابته في عبارة واحدة قد ال تستســيغها ذائقة من تعود على أن يشم فال يتذكر أو من تع ّود أن يش ّم فال يخ ّزن.

٭

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom