Al-Quds Al-Arabi

في اجملموعة القصصية «اجلرة»: عجز السلطة ونقد اجملتمع

- موسى إبراهيم أبو رياش كاتب أردني

■ تتكون مجموعة «اجلــرة» القصصية للروائي األردني محمد حسني السماعنة من خمس وأربعني قصة قصيــرة وقصة قصيرة جدا، حيث اشــتغلت وانشــغلت قصــص اجملموعــة مبعانــاة وهمــوم ومشــكالت وحيــاة النــاس الذيــن يعيشــون على هامش احلياة واألطــراف البعيدة عن املدن، احلياة البســيطة واألحــالم املتواضعــ­ة، في قرية منســية كمــا يبــدو في زمن مــا، ولكنهــا على األغلــب قرية فلسطينية ريفية يعمل أهلها في الزراعة.

والالفــت فــي هــذه اجملموعــة أن «محمــد بــن أبــي جمــال» طفال وشــابا وكهــال وعجــوزا، كان الشــخصية احملورية في معظم قصــص اجملموعة، باإلضافة إلى مختــار القرية وقطروزه، وبينما كان «محمد» ميثل جانب التمرد واالختالف عن الســائد وعدم اخلضوع، كان اخملتار ميثل الســلطة القاهرة، ولكــن العاجــزة املترهلة الفاشــلة، وتتنــاول هذه املقالــة مظاهر عجز الســلطة وترهلهــا التي ميثلها اخملتار الذي ظهر في ثالث عشــرة قصة، أو اجمللس البلدي الذي مثلته قصة واحدة.

أدوات السلطة

تعتمد الســلطة، أي ســلطة، على أدوات ملمارسة سلطتها وفرض هيمنتها، وفي القرية البسيطة مثل القطروز ومؤذن املســجد، هذه األدوات، وكان دورا القطروز واملؤذن متكاملني كأبواق خلدمة الســلطة وقراراتها، فالقطروز وهو خــادم اخملتار املنقطع له واملقطوع من شجرة يســارع بتجميع أهالي القرية، أو جلــب أحــد ســكانها أو تبليــغ قــرارات اخملتار، واملؤذن يوظف املســجد وســلطته الدينيــة بالنداء علــى األهالــي أو تبليغهــم قــرارات اخملتــار. وكان األهالــي فــي املقابل يذعنــون ويطيعــون وينفذون قــرارات اخملتــار دون مناقشــة مع وضــوح حمقها وغلطها وعدم منطقيتها، وعلى الرغم من أن قرارات اخملتار وخططه لم تزد احلال إال سوءا، إال أن الطاعة العميــاء والرضوخ والصمت كانت مترســخة، ولم يخرج عن ذلــك إال «محمد بن أبي جمال» الذي اتهم بالتمرد واخلروج عن اإلجماع والتســبب بالويالت ألهل القرية.

رجعية السلطة

السلطة بشكل عام رجعية متخلفة، على األقل في عاملنا العربي، وال تستشرف املستقبل إال مبا يحقق أهدافهــا في التســلط والقهــر وحتقيق املكاســب، فهــي على ســبيل املثال تبني ســجونا الســتيعاب األعــداد املتوقعــة، أو تحــول بعــض املرافــق إلى ســجون، ولكنها سلحفائية في معاجلة ازدحــام الطلبة فــي املدارس وتكدســهم فــي الصفــوف. في قصــة «القهقــرى» جتلت عبقرية اخملتار بأن مشكالت القرية ونحسها بسبب احلســد، ولــذا أصــدر قــراره للرجال بأن ميشــوا ويتحركوا إلى اخللف «القهقرى»، ووقف مســرورا وهــو يراقبهــم يتعثــرون ويســقطون ويقعون في احلفر ويصطدمون باجلدران، وملا شاهد أن النساء يســاعدن الرجال، غضب وشــمل النســاء بالقرار أيضا، وبتدخل من زوجته سمح لهم مبخالفة القرار ساعتني كل يوم.

ليــس شــرطا بالطبــع أن تصــدر الســلطة قرارا بالتحرك باملقلــوب أو «القهقرى» مــا دام أن معظم قراراتها وإجراءاتها وخططها تسير بالبلد والناس إلــى الهاويــة، والتراجع عن ركــب اآلخرين، وإال ما الذي يفســر هذا البون الشاســع بني بلدين في كل شيء، على الرغم من تقارب مواردهما وظروفهما؟

اللجان دليل عجز

تشــكيل اللجــان أكبــر مظهر مــن مظاهــر عجز السلطة وتهربها من مسؤولياتها؛ إليهام الناس أنها تعمل وتدرس وتنفذ عن بصيرة، وهي في احلقيقة تخــدع وتخدر وتتهــرب. معظم األمــور بحاجة إلى قرار واضح مباشــر حلل املشــكلة أو اخللل، ولكن الســلطة تلجأ إلى تشــكيل جلنة أو جلان لدراســة املوضوع ووضع التوصيات غير امللزمة في الغالب، وبني التشــكيل والتوصيــا­ت ومراجعة التوصيات تضيع القضية، وينســى الناس، وتتفاقم املشكلة، وتتناسل مشــكالت ال نهاية لها. في قصة «اجلرة» صرحت «حمدة الســالم» بسبب كسر اجلرة، ولكن اخملتــار لــم يقتنع بالســبب، فشــكل جلنــة ملعرفة الســبب، ولــم تتفــق اللجنة وأشــكل عليهــا األمر، فقــال عضو اللجنة الصياد: «والله يا مختار شــيء عجيــب؛ اجلــرة مضروبــة ومــش مضروبــة، واقعــة ومــش واقعــة»، وملــا غضب اخملتــار اقترحت عضو اللجنة الدايــة: «مــا وصلنــا لنتيجــة نرضــى عنها، ولكننــا نوصي بتشــكيل جلنــة اســتقصائي­ة تفتيشــية بحثيــة الســتجواب كل من كان فــي املكان أو حوله حلظة احلــدث»، وأخــذ اخملتار بهذه التوصية العبقرية لكشف غوامــض الواضــح البــني. كما أن النظــر إلى وظائــف وخبرات أعضــاء اللجنــة يكشــف عمــق العبث وعدم اجلدية.

برمجة الناس

التدخــل فــي شــؤون النــاس الشــخصية وخصوصياتهـ­ـم مــن عالمــات إفــالس الســلطة وعجزهــا، فهي توهم الناس بأنها حريصة عليهم، ولكنها تداري وتغطي فشــلها، ففي قصة «النومة الشــهرية»، يتحكــم اخملتــار بنــوم أهالــي القرية واســتيقاظ­هم حتــت طائلــة املســؤولي­ة، وينقــاد األهالــي دون اعتراض، إال «محمــد بن أبي جمال» الذي كشــف القطروز أمره، أنــه ال ينصاع لبرمجة اخملتــار وتعليماته بشــأن النوم، فأجمــع األهالي على ضرورة عقابه بحــزم، وأحضر بالقوة وربط إلــى عمــود، واتهمه اخملتــار «أنت تخالــف أمري، وتظــل صــاح ملراقبتنــ­ا ونحــن نائمــون، وال تقرأ ترويدة النائمني، وال تعتز مبستقبل أحالمهم، وال تبالــي بحياة األحالم، وال تؤمن بأنه بالنوم وحده حتيــا األمم وتســعد، وباحللم تعيــش؟» ويفرض عليه النوم مكرها، وعندما يظن اخملتار أن مشاكله انتهــت بإخضاع املتمــرد، وهو ينظــر إليه بخوف

وقلــق، يدخل عليــه القطروز مرعوبــا، من مصيبة جديــدة قــد وقعــت. فعندما ينــام اجلميــع، فمن الضروري أن حتدث املصائب، والسلطة التي ترى في نوم الشعب راحة لها واهمة وخرفة.

هدر املقدرات

هــدر املقــدرات تهمة جاهــزة توجهها الســلطة لرعاياهــا، ولكنها ال تــدرك أو تدرك أنهــا أكبر من يهــدر املقدرات والطاقات، دون حســيب أو رقيب، ومن الســهل أن تبرر هدرها بأنه للمصلحة العامة، ففي قصة «طاســة الرعبة» وصفت الداية الشرب من «طاســة الرعبة» لعالج التبول الــإرادي الذي يعانــي منــه اجلميــع، وبحثــوا عن الطاســة دون جدوى، وأمــر اخملتار قطــروزه أن يبحث عنها في كل مكان، فلم يجد شــيئا، وملا اجتمــع أهل القرية فــي مضافــة اخملتار للبحــث في ضياع الطاســة، باعتبارهــ­ا «من أهــم املعالــم التراثية فــي القرية، وألنها األمل الوحيد لهــم للتخلص من البالء الذي عم وطــم»، كانــت املفاجــأة للجميــع عندمــا رأوا «طاسة نحاسية (طاسة الرعبة) مليئة بالتمر يدور القطــروز بها عليهــم»، وهكذا يتحــول إرث القرية وأملها باخلالص إلى وعــاء أو طبق لتقدمي التمر، وكــم من مباٍن فارهة تشــيد وماليــني تصرف من أجل التفاهات وسفاســف األمور، ولكــن املاكينة اإلعالمية وأبواق الســلطة تبث دعايتها وأخبارها بعظمة وأهمية هذه السفاسف، بل وتعدها إجنازا ال مثيــل لــه وخطــوة في االجتــاه الصحيــح نحو املستقبل بخطوات واثقة مدروسة.

وبعــد؛ تتميــز قصــص مجموعــة «اجلــرة» للســماعنة بأنهــا تشــتبك مــع تفاصيــل احليــاة اليومية البســيطة، بلغة جميلة، وأسلوب مختلف، وال تخلــو مــن الغرائبيــ­ة والتخييــل والســخرية الالذعــة واملتعة والتشــويق واملفارقــ­ة، وهي على الرغــم من بســاطتها الظاهــرة إال أنهــا توجه نقدا قاســيا للواقع السياسي واالجتماعي، وحتذر من مغبة الصمت والطاعة العمياء ومحاربة اخمللصني الصادقني.

 ?? ?? محمد حسني السماعنة
محمد حسني السماعنة
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom