Al-Quds Al-Arabi

من شعرية النص إلى شعرية الرقمنة

محمد

- ٭ شاعر وكاتب من املغرب

■ ال يختلف اثنــان في أننا اليــوم، أصبحنا نعيش فــي أتون عالم إلكتروني متشــعب، ســماه أحدهم بالقارة السادســة أو املســتعمر­ة اجلديدة. إنه عصر ما بعد الثــورة الصناعية، أو باألحرى عصر الثورة الرقمية. وهي على كل حال، وضعية جديدة تســتوجب من اإلنسانيات، من علوم ومناهج وفلسفات .. أن تفكر مليا في هذا الوجود اجلديد، وفي طبيعة العالقة احملتملة بني الواقعي واالستيهام­ي، بني املعطى واحملتمل، بني هوية اإلنسان التقليدية وهويته اجلديدة.

الشــعر بوصفه متثال رمزيا استخدمه اإلنســان، منذ أن عقل ذاته، للتعبيــر عن وجــوده، وكذا فهــم كينونته، لــم يحد عن هــذه اإلقامة اجلديدة التي جعلته رهن سلطة جديدة، غير اخليال الطبيعي والكتابة التقليدية. سلطة متنح األولوية ملا ميكن أن أسميه باخليال االصطناعي، والكتابــة الديجيطالي­ة، تلك التي حتتاج إلى كفــاءات ومهارات لم تكن متاحة من قبل.

ووجبــت اإلشــارة بعد هــذا التقدمي، إلى أنني لســت معنيــا، وأنا أحتدث عن الشــعر الرقمــي (اإللكتروني)، بكل ما يكتــب على منصات التواصل االجتماعي باســم الشــعر، واحلق أن أغلبه ال تتوفر فيه أدنى شــروط الكتابة الشعرية، كما أنني ال أقصد الشعر الذي يستخدم بعض املصطلحات التي جاءت إلى عالم الشعر من هذا الفضاء السيبرنيطي­قي كمصطلحات الواتساب، والفايسبوك، والشاط، والبارطاج، والاليكات وغيرها، وال حتــى الكتابة الشــعرية التي تظل محافظــة على هويتها الورقية، حتى وإن كتبت على احلاســوب، وإمنا أقصد الشعر التفاعلي الذي تتوفر فيه شــروط الكتابة الشــعرية الرقمية، والذي تتفاعل معه قــراءات وتدوينات متشــعبة، صادرة عــن قراء لهم إملــام بالنظريات الشــعرية، ولهم خبرات وكفاءات عالية في التفاعل اإليجابي مع الكائن الشعري الرقمي.

في السابق كان النص الشعري يستلهم شعريته من ذاته، في عالقتها بالصفحة مبا هي بياض وفراغات بتعبير فولفغانغ إيزر؛ إال أنه مع ظهور الفضاء السيبرنيطي­قي/الشبكي، سيوســع النص من دواله، وستغدو تكنولوجيا الرقمنة، هي املصدر األســاس الذي يستلهم النص الشعري منه شعريته.

إن الكتابة الشــعرية اليوم، أصبحت تتحقق خارج العادة واملألوف، ألنها بكل بساطة، تســتعمل الكثير من التقنيات والروابط التي لم تكن من وسائط اإلبداع الشــعري في السابق، كالصورة والصوت والفيديو والروابط املدمجة، فضال عن التعليقــا­ت الفورية والتفاعالت األخرى. هذا األمر بات يفرض على الشاعر، أوال وقبل كل شيء أن يكون على علم بهذه الروابط، التي جتعل من النص عمال أكثر تشعبا. إن النص الشعري الرقمي هو نص مســتقبلي، ألنه غير ثابت، دائم االنفتاح على املستقبل، في إطار عالقة تشاركية متجددة بني الشاعر والقارئ، أيضا وعطفا على ذلك، هو نص يشــتغل وفــق برامج محددة تفرضها هــذه التكنولوجي­ا اجلديدة (احلاســوب)؛ إنه نص موجود وغير موجود، سمته األساس الال اكتمال، ألن دور القارئ في حتقيق وجود هذا النص، دور أســاس؛ ومع كل قــراءة جديدة، يأخذ النص الرقمي وجودا آخر، الشــيء الذي يضفي عليه صفات الترابط والتعالق والتشابك.

واملالحــظ في ظل هذه الطفــرة األدبية، هو أن القــراءة لدى القارئ االفتراضــ­ي، مبا هي اآلن فعــل رقمي بامتياز، أصبحت تســتقبل العمل الشــعري، وتتجاوب معه بشكل فوري وآني، أي أثناء كتابته، وإنتاجه علــى صفحة املنصة. وهذا أمر لم يكن ممكنا في الســابق؛ مما يعني أننا اليوم، صرنا أمام عملية تواصلية (الشــاعر/ النــص/ القارئ ) مختلفة متاما عــن عملية التواصل األدبــي الورقية.. عملية تســتوجب نظرية جديدة في مجال الشــعر، واألدب بشــكل عام، من شــأنها أن تؤسس لشعرية رقمية تستحضر اشتراطات الرقمنة،ـ إبداعا وتلقيا.

فمثــال املناصات والعتبات ،Seuils التــي نظر لها جيرار جنيت في الســابق، كالعنوان، والغالف، واللوحة أو الصورة املصاحبة للغالف، ولوغو دار النشــر، وســنة الطبع، وغيرها من النصوص املوازية Les paratextes بترجمة محمــد بنيس، لم تعد هي نفس مناصات النص الشــعري الرقمي، بل إننا اليوم نلفي أنفســنا، كقراء، أمام كم هائل من املناصات األخرى، التي تختلف عن سابقاتها، كالبرمجايت اإللكتروني­ة، ورموز املنصــات، والعناوين التي تظهر وتختفي، ووصالت اإلشــهار، وحجم الصفحــة، طوال وعرضا، ونوع اخلط... كذلك اخليال الشــعري الطبيعي/ التقليدي، لم يعد هو نفســه في هذا الفضاء السيبراني، وإمنا اســتبدل بخيال من نوع خاص، ميكن تســميته باخليال االصطناعي.. خيال يتحــرك بتوجيه من احملفزات واحملــركا­ت اإللكتروني­ة، في أغلب األحيان.

لم يعد الشعر إذن، يخضع ملا كانت متليه مقاييس النظريات الشعرية السابقة، القدمية منها واحلديثة، بل وحتى تلك التي راهنت على الصفحة بوصفهــا داال جديدا، في إطار ما أســمته الشــعريات اجلديدة بالعمل املفتــوح، أو حداثة الكتابــة؛ لقد أصبح احلاســوب، ببرمجياته املثيرة واحملفزة، هو الراعي األول لصناعة النص الشعري، فهو من مينح النص تشعبه الذي يجعل الداللة دالالت متعددة املرجعيات..دالالت تستوجب إعمال كل احلواس واملعارف، الطبيعية واالصطناعي­ة، من أجل التفاعل مع النص، استمتاعا أوال، ثم القبض على جزء من كينونته ثانيا.

إن القارئ، في هــذا املقام، لم يعد هو نفس القارئ، الذي يعتمد على اإلنصات أو القراءة الورقية، بل حتول إلى آلة ديجيطالية، تتفاعل مع ما يظهر على شاشة احلاســوب بنوع من التجاوب األوتوماتي­كي، كما لو أنه هو من ينتــج النص، أو يعيد إنتاجه وفق ما ميليه احلاســوب عليه من جهــة، ووفق مرجعياتــه املعرفية من جهة ثانيــة، عكس ما كان يحدث في الســابق، حيــث كان القارئ يعتمــد، بالدرجة األولى، علــى مرجعياتــه املعرفية فقط فــي عمليــة الفهم ومطــاردة املعنى. وضع كهذا أصبح يخيفنا حقا، ألن دور الشاعر في إنتاج النص، أصبح يتقلص بشــكل كبير لصالح اآللــة. اآللة التي تبدو فــي ظاهرها، أنها حررت اإلنســان بشــكل مطلق، وجعلته ينفتح على العالم اُملعْولم في إطار كونية، بقدر ما هي شاســعة، بقدر ما جعلت من العالم حيزا ضيقا للغايــة؛ إال أن واقع األمر، يؤكد على أن مضمرات اآللة، جتر اإلنســان إلى االنســحاب من دوره التاريخي باعتباره مركز الكون، مثلما جتره إلى التخلي عن إنســانيته، واخلضوع املطلق ملطامع الشركات الكبرى (العابرة للقارات الســت، باحتساب الفضاء الشــبكي) التي تستثمر في مجال الرقميات، والتي ال تنظر إلى اإلنســان إال كمستهلك تافه، أو باألحرى جتعله كذلك.

هذا ما جنته علينا احلداثة الســائلة بتعبير الفيلسوف البوالندي « زيجمونت بومان». لكن ليس لدينا اليوم من خيار، وما علينا إال أن نذعن لهذه السلطة اجلديدة، دون أن نستسلم لها، وذلك باستثمارها إيجابيا، من خالل العمل على تخليق هذا الفضاء الســيبرني­طيقي قدر املستطاع. عملية تبدو صعبة جدا، لكن بإمكان الدول املستهدفة من قبل هذا الغازي اجلديد، أن تتصدى لهذه العوملة املتغولة، عبر فرض رقابة مسؤولة على كل ما ينشــر باســم األدب، وعلى صناع احملتويات مبنصات التواصل االجتماعي، حتى ال تنقلب اآللة على اإلنســان، وجتــره إلى حروب قد تكون األخطر في تاريخ البشرية.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom