Al-Quds Al-Arabi

الدرون اإليراني والتركي يغير جزءا من العالم

- د. حسني

*باحث أكادميي وإعالمي فرنس

تقــدم عــدد مــن الــدول الغربيــة إلى مجلــس األمن الدولــي بطلــب ملناقشــة اســتعمال روســيا الطائرات املســيرة اإليرانيــ­ة في حرب أوكرانيــا، وبالتالــي معاقبة طهران. وهذه املبادرة تعتبر إحــدى املنعطفــا­ت الكبرى التي حملتها هذه احلرب، ويضاف إليها اســتعمال الطائــرات املســيرة التركية. وهــي معطيات تؤكد التغييرات املقبلة في املشهد اجليوسياسي العاملي.

اعتاد العالم خالل العقود األخيرة ســماع أسماء الســالح الغربي والســوفيي­تي، والحقا الروسي، وعادة ما جرى اســتعمال أســلحة إما روســية أو أمريكية، وبدرجة أقل فرنســية وبريطانية. ولهذا، استأنس الرأي العام العاملي بسماع أسماء طائرات من نــوع أف 16 أو أف 51، ثم منظومــات صواريخ مثل باتريــوت أو توماهــاوك، وهــي أمريكية. كما اعتاد سماع أسماء أسلحة روسية مثل ميغ بأنواعها ومنظومة صواريخ عائلة أس.

ورغم دخول الصني الســوق العاملية للســالح، وتقدمهــا املبهر في الصناعة العســكرية، ال يســمع الكثيــرون عن الســالح الصيني ألنه لم يســتعمل كثيرا في احلــروب حتى اآلن، علمــا أن دوال تعتمد عليها بشكل كبير لتحقيق نوع من الردع النسبي في مواجهة أطراف أخرى. ولعل املثال البارز هو اقتناء املغرب ألسلحة نوعية من الصني من راجمات طويلة املدى ومنظومة دفاع متطورة الدرع الدفاعي-0002 تقلل من خطر سالح اجلو اإلسباني.

غيــر أن احلرب الروســية ضــد أوكرانيا حملت جديدا في عالم الســالح، وكلمة جديد هنا دالة على أعمق معانيها، ألن األمر يتعلق بقفزة ليست نوعية، بل تاريخية. ذلك أن منذ القرن الثامن عشــر، سيطر الغرب والحقا روسيا على صناعة األسلحة، وهو ما يفسر التوسع االســتعما­ري، فكل عملية استعمارية تعتمد على قوة السالح وليس قوة االقتصاد. وكان يكفي توقيع دولة كبرى صفقة سالح كبيرة مع دولة معنية، وإن كانت صغيرة، لكي جتعلها قوة إقليمية قادرة على فرض شــروطها على الدول اجملاورة لها. في هذا الصدد، ال ميكن فهم قوة إسرائيل في الشرق األوسط، من دون صفقات السالح األمريكي. وبدأت هذه اللوحة العســكرية تتغير خــالل العقد األخير وبشــكل ســريع بفضل دخول دول كانت، وبعضها ما زال يصنف من العالــم الثالث، دول من اجلنوب، الصناعة العســكرية بخطــى ثابتة وقويــة، بدأت تؤثر فــي املوازين على األقل إقليميــا. ويبقى املثال الســاطع والنوعي هو أنه ألول مــرة خالل القرون األخيــرة، جتري حرب في القــارة األوروبية، ويتم اســتعمال الســالح املقبل من اجلنوب، مــن تركيا وإيران. عالقــة بهذا، لم يصدق اخلبــراء في البدء الدور القوي للمســيرات التركية من نوع «بيرقدار» التي سمحت للجيش األوكراني بنوع من املقاومة في مواجهة التقدم البري الروسي، بل واستهداف قطع ســالح بحرية في البحر األسود. ويكفي أن اجليش األوكراني ألف أغنية يتغنى فيها مبزايا هذا الدرون. في املقابل، ال أحد كان ينتظر من روسيا املتطورة في ســالح اجلو وفي صناعة الصواريــخ، أن تلجأ إلى الطائرات املســيرة من صنع إيراني «الشــاهد »136 لتفادي منظومة الصواريــخ األوكرانية املكونة من خليــط من صنع ســوفييتي أس 300 وكذلك غربية. وكانت «الشــاهد »136 قد سجلت حضورها يوم 14 ســبتمبر/أيلول 2019 عندما هاجمــت محطة بقيق الســعودية، أكبر محطة لتكرير النفــط في العالم، ولم تنجح منظومة باتريوت في اعتراضها. إيران لم تعلن الهجوم، لكن كل األصابع كانت تشير إليها. وال تقتصر موسكو على اللجوء إلى الشاهد 136 لضرب اجليــش األوكراني ومنشــآت الطاقة، بــل وقعت اتفاقا مع إيران لتصنيع هــذه الطائرة في األراضي الروســية، حســبما نقلت «واشــنطن بوست» منذ أيام. وهذا يجر إلى تساءل عريض: إذا كان الدرون اإليراني بهذا املســتوى، فكيف ســيكون مســتوى صواريخهــا؟ ويعد قرار موســكو توقيع اتفاقية مع طهران لتصنيع «الشــاهد »136 وأنــواع أخرى في روســيا تطورا الفتا يؤكد مــدى التقدم الذي حققته الصناعة العســكرية اإليرانية. وقام عدد من الدول منها أوروبيــة بالتوقيع مع تركيا لشــراء طائراتها املســيرة. لعل العنوان البارز لهذا التطور هو جلوء الشــمال إلى أســلحة من اجلنوب، ثــم حدوث أول مواجهة عســكرية بني أســلحة مصنعة في اجلنوب في حرب في الشمال. وبعيدا عن مثل هذه العناوين التي تبدو براقة وقد تكون عاطفية للغاية، واعتمادا على نوعية الســالح التركــي واإليرانــ­ي في هذه احلــرب، فالنتائج املرتقبة مهمة جيوسياســي­ا على جزء من العالم، وميكن تلخيصها:

في املقام األول، تدرك كل من إيران وتركيا املفهوم العميق لألمن القومي، ولهذا اســتثمرت في البحث العلمي العسكري الذي يبقى في آخر املطاف مرتبطا كذلــك بالتقدم الصناعــي عموما. فقــد جنحت في سياســتها بإعطاء البحث العلمي مكانته احلقيقية لتعزيــز األمن القومــي، ليس فقط العســكري، بل كذلك الغذائــي والطبي. ولهــذا، فالتقدم احملرز في الصناعة العســكرية في البلدين يوازيه تقدم مماثل في الصناعة املدنية والطبيــة والغذائية وقطاعات أخرى. ويحدث هذا في وقت فشل فيه عدد من الدول العربيــة في مختلــف القطاعات ومنهــا، الصناعة العسكرية مثل حالتي مصر والسعودية.

في املقام الثاني، لم يعد قرار صنع دولة إقليمية، بفضل صفقات األسلحة، مقتصرا على الدول الغربية وروسيا، بل ســيصبح مبقدور إيران وتركيا القيام بالدور نفسه نســبيا. فلنتأمل هذا املشهد: لو قررت إيران اآلن تزويدها أي دولة عربية مثال في شــمال افريقيــا بالصواريخ وطائرات الــدرون ومنظومة الدفــاع اجلوي، فوقتها ســتخلق قلقــا حقيقيا في االحتاد األوروبي، خاصة لدولــه املطلة على البحر األبيض املتوسط. عبر التاريخ، متيز السالح بتغيير مجــرى تاريخ العالم، واآلن، يغيــر الدرون التركي واإليراني نســبيا «جزءا صغيرا» من هــذا العالم. من كان ينتظر أن يشــتكي الغــرب في مجلس األمن من ســالح كالســيكي مثل الــدرون اإليراني، ومن كان ينتظر إقبال دول غربية علــى الدرون التركي. التاريخ يحمل مفاجآت.

*كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom