Al-Quds Al-Arabi

خيرسون: هزمية لم حتدث وحرب لم تنته

-

خبران احتال عناويــن األنباء العاملية حــول األزمة األوكرانية خالل الشــهرين املاضيني. كان األول حول تلميح الرئيس الروسي فالدميير بوتني بأنه قد يستخدم السالح النووي في مرحلة ما للدفاع عن حدود بالده، أمــا الثاني، الذي جاء قبل حوالي أسبوعني، فتعلق باإلعالن عن االنسحاب الروسي من بلدة خيرسون ذات األهمية االستراتيج­ية.

مثلمــا أثار اخلبر األول جد ًال واســع ًا حــول جدية الروس في اســتخدام الســالح النووي، خاصــة أن اخلطوط احلمر الروسية لم تكن واضحة، أثار االنسحاب الروسي غير املتوقع تساؤالت وجدال، وفي حني استقبل كثيرون هذا اخلبر بابتهاج كبير في البداية، إال أنه ســرعان ما بــدأ اخلبراء يحذرون من اعتبار أن احلرب انتهــت. منذ البداية كان هناك شــعور بأن ثمة خدعة مــا، حيث كان هناك تناقض بني اإلعالن الروســي عن اجلاهزية للمضي قدما في اســتخدام األســلحة النووية، إذا ما متادى الغرب في مساندة األوكرانين­ي، أو إذا ما أصبحت احلدود الروســية، مبا فيها تلك اجلديدة، مهددة، وما بني ذلك االنسحاب الهادئ.

مع أن ذلك الشعور كان منطقيا، إال أن اإلعالم الغربي فضل القراءة السهلة للحدث، أن روسيا اضطرت لالنسحاب بسبب ما عاناه جيشها املتهالك من خسائر، وأنها انهزمت في مواجهة املقاومــة األوكرانية. بناء على هذه القراءة نشــرت وســائل اإلعالم االحتفــاا­لت األوكرانية ورفع األعالم في مناطق كثيرة من املدينة التي «حتررت» من االحتالل الروســي، أما الرئيس األوكراني فقد حــرص على القول إن مــن اخلطأ احلديث عن انسحاب روســي طوعي، وإن الذي حدث هو مقاومة أجبرت «العدو» على اخلروج، وإن هذا االنتصار ليس ســوى «بداية النهاية». احلقيقة هي أن الوضع في خيرســون، التي ما تزال القوات الروســية موجودة في ما يقدر بســبعني في املئة من محافظتها، معقد، وأن ســكانها الذين كانوا يقدرون بثالثمئة ألف شــخص، والذين كان والؤهــم موزعا ما بــني الوطنني الروســي واألوكراني لــم يبق منهــم إال القليل املنقســمو­ن بالضرورة ما بني مجموعات موالية لروســيا، قد يكون انضم إليهم مقاتلون محترفون، ومجموعات أخرى مقاومة ملا تعتبره احتــالال. هذا االنقســام بني معســكرين موجود فــي مناطق أوكرانية كثيرة، لكنه يتميز في خيرسون بخصوصية. لنتذكر على سبيل املثال أن خيرسون كانت من أولى املدن التي متددت فيها روسيا، وأن ذلك كان سهال بسبب وجود أعداد كبيرة من املوالني لها فيها. ليس هذا فقط، ولكننا نالحظ أيضا أن املدينة لم تصب بخسائر كبيرة مقارنة بالدمار الذي أصاب غيرها. في هذا إشارة حلجم التعاون الذي وجده الروس داخليا، والذي وفر الكثير من الوقت واالشــتبا­ك. خيرسون تشبه حلد كبير إقليم القرم، الذي مت ضمه في عــام ،2014 الذي كان عدد قليل من سكانه يتعامل مع السلطات اجلديدة كاحتالل.

مــن الناحية اجلغرافية تقع خيرســون شــرق نهر دنيبر، الذي بات أشــبه باحلدود اجلديدة، وتالصقها مناطق وأقاليم أصبحت روســية من الناحية الفعلية، وهــي صعوبة مضافة

للصعوبة األولى املتعلقة بتهدم اجلســور الرابطة بني جانبي النهر. إذا وضعنا الصورة بهذا الشــكل، فســوف يبرز أمامنا ســؤاالن مهمان ومرتبطان ببعضهما بشكل ما: األول هو: هل تخلى الروس عن خيرســون فعال؟ أما الســؤال الثاني فهو: من هــم بالتحديد املوجودون حاليًا فــي املدينة وهل هم فعًال مدنيون ومواطنون سابقون من ســكان البلدة؟ أم أفراد جدد مت نقلهم من أنحاء روسية أخرى، كما تقول منابر غربية وهي تتحدث عن «اســتبدال إثني»؟ لألسف فإن اإلجابة عن هذين السؤالني ليست سهلة، ولذلك فإن القوات األوكرانية، املرتكزة غرب النهر ما تزال تتعامل مع هذا االنســحاب بحذر، خوفا من الوقوع في مصيدة. هذا احلذر يتنافى مع الدعاية التي تبشــر بهزمية اجليش الروســي ونهاية املعركة، التي متضي أكثر من ذلك العتبار أن غياب الرئيس الروســي عن قمة العشرين في إندونيســي­ا، إمنا يؤكد إقراره بهذه الهزمية أو على أن روسيا «املنهزمــة» هي التي حتتاج اآلن للحــوار والتفاوض من أجل خروج آمن. فــي الوقت الذي حتاول فيه القــوات األوكرانية االحتفاظ بـ»ســيطرتها» على خيرسون، يتســاءل مراقبون غربيون متحمسون لدعم الطرف األوكراني عن الذي سيحدث إذا ما توالت االنتصارات، ولم يكتف األوكرانيو­ن باســتعادة املناطق التي مت «احتاللها» مؤخرا، أي إذا ما استغلوا الفرصة للتمدد وصوًال لكل ما يعتبرونها أراٍض أوكرانية، مبا فيها تلك التــي مت ضمها في حــرب .2014 هذا الســيناري­و صعب، لكن إن حدث، فإنه ال أحد يســتطيع تخمني ردة الفعل الروســية، وبالنسبة للداعمني الغربيني، فإن حدود املعركة احلالية هي ما شــغله ميدان احلرب األخيرة فقط، ألن أي حترك يتجاوز ذلك سوف يعرض املنطقة كلها للخطر.

رمبا تكــون محاولة اســتعادة إقليم القرم مســتبعدة في الوقت احلالي، لكن إذا متكنت القوات األوكرانية من السيطرة الفعلية، وليس اإلعالمية، على خيرســون، فإنها رمبا حتاول توســيع انتصاراتهـ­ـا بفتح جبهة فــي إقليم لوغانتســك، أو رمبا حتاول نقل املعركة إلى نواحي زاباروتشــ­يا ومليتوبول وهي مناطق مهمة واســتراتي­جية، ألنها تقطــع طريق اإلمداد الــذي يربط العمق الروســي بالقرم، وهي رغبــة قدمية لدى زيلينسكي، لكن مشكلتها تكمن في أنها صعبة التنفيذ وخطرة، خاصة مع وجود دالئل على أن روسيا استعدت بالفعل ملواجهة هذا الســيناري­و عبر حتصينــات خاصة، وعبــر نقل القوات املنسحبة لهذه املناطق.

هنالــك عامل آخــر يجب وضعه فــي االعتبــار حول هذه احلرب، وهو أن املعلومــا­ت إمنا تأتينا من نافذة واحدة، فبعد تفعيل احلظر على القنوات واملواقع الروسية الرسمية، أصبح مصدرنا الوحيــد هو ما تصدره لنا وســائل اإلعالم الغربية، التي هي غير محايــدة بالتأكيد، ولذلك فــإن تقارير من قبيل ضعف جتهيزات اجليش الروســي، لدرجــة أنه لم يعد ميتلك حتى مالبس شتوية مناســبة، أو تقديرات اخلسائر البشرية أو التقارير املتعلقة بالوضع االقتصادي الروســي ومدى قدرة موسكو على االســتمرا­ر في متويل احلرب املكلفة واملمتدة، أو غير ذلك مما يصل حد احلديث عن متلمل في القيادة الروسية، وحتــركات تهدف الســتبدال بوتــني، كل هــذه تقارير يجب التعامل معها بحذر، خاصة إذا كنا ال نستطيع الوصول لوجهة النظــر املقابلة. هذا يجعل من الصعــب معرفة ما إذا كانت تلك تقديرات موضوعية، أو مجــرد مبالغة داخلة في إطار احلرب النفســية واملعنوية. األكيد أن احلرب كانت قاســية بشــكل مماثل على أوكرانيا، التي لم جتــد الدعم الكافي من حلفائها، الذين خشــوا أن يتورطوا بشكل مباشر في الصراع. مت تدمير جزء كبير من البنية التحتية لعشرات املدن وبعد أشهر طويلة من القتال املســتمر بــدأ اجليش األوكرانــ­ي يعاني من نقص الذخيــرة والعتاد، أما على صعيد الضحايا، وإذا استشــهدنا بكالم مايكل ميلــي رئيس هيئة األركان املشــتركة األمريكية، فإن أوكرانيا فقدت، كما روســيا، ما يقــارب املئة ألف ضحية موزعــة ما بني قتيل وجريح. متنى كثيــرون أن تكون احلرب، التي أدت الرتباك عاملي في سالســل الغــذاء والطاقة، انتهت بسقوط خيرسون، لكن األحداث األخيرة تبدو أقرب، في أكثر األقــوال تفاؤال، لفرصة هدنة منها لنهاية حاســمة، وإن كانت هذه الفرص تبدو اليوم أصعب في ظل األنباء التي تتحدث عن معارك جديدة في محيط دونيتسك.

متنى كثيرون أن تكون احلرب، التي أدت الرتباك عاملي في سالسل الغذاء والطاقة، انتهت بسقوط خيرسون، لكن األحداث األخيرة تبدو أقرب، لفرصة هدنة منها لنهاية حاسمة

*كاتب سوداني

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom