Al-Quds Al-Arabi

«اجلاثوم» للتونسية فتحية بن فرج: كتابة من ال صوت لهم

- رياض خليف كاتب تونسي

■ يزداد صوت املهمشني واملنبوذين والضحايا علوا وارتفاعــا في الرواية التونســية املعاصرة. فهذه الفئات تتسلم دفة السرد وتســرد حكاياتها وأيامها. فثمة ميل من الروائيني إلى إفساح اجملال لهذه الفئات للتعبير، عبر السارد املتخيل، الذي تنتمي لغته األيديولوج­ية إلى هذه الفئات، وعلى ألســنة الشخصيات املتخيلة التي تنتسب لهذا الهامش االجتماعي، محاولة لكســر حاجز اخلوف واخلجــل، وانتصارا للمغضوب عليهــم واملتمردين على الواقع والشواذ، وهو ما يجعل بعض الروايات تتصادم مــع الذائقــة العامة وتشــتبك مــع الســلطوي مبختلف متظهراته، سياسيا واجتماعيا وأخالقيا.

ولعل الرواية التونسية تهرب بهذا التوجه من خطاب السلطة واملركز والنموذج، إلى خطاب الهامش ويوميات الشعب خارج الواجهة الرســمية. ها هنا تصبح الرواية صوتا شعبيا ينتصر للغاضبني واملغضوب عليهم. وفي هــذا الســياق الروائــي تأتي روايــة «اجلاثــوم» لفتحية بت فــرج، مفصحة عــن مشــروعها في بعــض عتباتها، فهــي تعلن فــي اإلهداء أنهــا «تكتب للمعطوبــة قلوبهم، للذيــن يقترفون احلياة مع كل مطلع شــمس، رغم وعارة الدروب، لكل من آمن باإلنسان فاعال...».

لعبة الرواية

هــذا اإلهــداء يجعلنــا أمــام لعبــة الروايــة وأمــام شــخصياتها املقاومــة، الباحثــة عــن احليــاة، املتأملــة، املعتــدى عليهــا، واملوجوعة وجعــا يعبر عنــه التصدير الوارد على لســان رياض الصالح حســني: «ال تســألوا األشجار عن نكهة الفؤوس في اخلاصرة». فـ»اجلاثوم» روايــة يحتضنها الهامش فضاء، وتعمرها شــخصيات هامشــية تروي ســيرها ورحلتها مع بعضها بعضا في هذه احلياة.

تهيمن األحياء الشــعبية والهامشــي­ة فــي املدن على فضاءات روايات الهامش، وهذا ما نســجله في روايتنا فتختــار كاتبتنا حيا شــعبيا فقيــرا «حينمــا تلقي إليه نظــرة من حافة الطريق الســيارة التي حتاذيه يبدو لك أشــبه بالركام. يغلب عليه لون اآلجــر األحمر. فأغلب البيــوت مــا زالت عارية آجــرا على آجر لــم تطل بدهن ولــم تكــس بإســمنت...». هكــذا تبــدو هــذه األحياء املأهولة بالســكان، املتراصة بالفقــراء والهاربني من املدينة الكبيرة إلى أطرافها، عجزا عن مواجهتها وهروبا مــن قوانينها ونظامهــا الذي يرفضهــم ويطردهم. فهذا البنــاء الفوضــوي ال يقبل داخل املدن، وهــذا احلي رغم تطــوره الحقا ومنــوه واقتراب احلياة اجلديــدة منه ظل حــي العاجزين. «لم يتغيــر غزاه بعض املثقفــني الفقراء والصعاليك واملعطلني عــن العمل وبعض املوظفني ذوي الدخــل احملــدود، الذيــن ال قدرة لهــم علــى مواكبة غالء املعيشة في األحياء الراقية واملناطق احلضرية».

في هــذا املكان تظهر شــخصيات الروايــة تعيش في كواليســه وظالمه، محاربــة احلياة ومتســترة بالظالم. باحثة عن بهجاتها في الليل، مخفية أوجاعها وأسرارها. وفي مقدمتها عفيفة التي اســتقبلها احلي باالســتغر­اب واإلشــاعا­ت واحلذر. «كانت تثير حنق النساء وغيرتهن وشكوكهن لفرط ما تلهج به ألسن الرجال عنها بإعجاب واهتمام... مثيــرة الرغبات والشــهوات». تطارد عفيفة احليــاة. تبحــث عن عمــل وعــن دفء. تنتقل مــن مهنة إلــى أخرى، من العمــل في اإلذاعة إلــى العمل في حانة، تتعرض إلى االغتصاب والتحرش وتعيش حياة اغتراب

وغربــة مــن دار األيتــام إلى الشــقة الفرديــة، التــي اكترتهــا مبفردهــا، متحدية في األثناء ســؤال األبوة. فهي لقيطة مــن أب مجهول، وإلى جانبهــا تظهــر شــخصية نبيــل الرمــاش، صديقها في الليالي، وهو بائع الياســمني صاحب الشهادات العليا. «كــم هي كثيــرة املهــن التــي امتهنتها منــذ تخرجت من اجلامعة مــن أجل احلصول على بعض الدنانير بســبب البطالة التي اجتاحت هذا البلد ودمرت أحالم الشباب».

جتارب بائسة

فهــو يبدو أيضا منتقــال من مهنة إلى أخــرى وباحثا عــن االســتقرا­ر. «اشــتغلت حمــاال فــي مصنــع أحذية، أنقل الســلع على ظهري وحارســا ليليا لعمــارة وهباطا ألكياس اإلســمنت في إحدى شــركات اخلرسانة وغير ذلك كثير... كما تنقلت طويال بني املطاعم الشعبية غساال لألوانــي وكنت انتظر حتــى آخر الليل كــي أنظف احملل وأمسح األرضية وأصفف الكراسي املبعثرة».

جتارب مهنية بائسة ومعاناة حتيلنا طبعا على مصير أصحــاب الشــهادات العليا فــي اللحظة الراهنــة. هكذا يصــرخ نبيــل الرماش مشــتكيا من هذا الواقــع املعاش،

ومن هذه الظروف «أنا بائع الياسمني اجملاز في الفلسفة املســجل في دفاتر احلالة املدنية ألب وأم شرعيني أسند ظهــري كل ليلة إلــى خربة من خرب احلــي اللعني». لعل الكاتبة تنقل بواســطة هذه اللغة صوت هــذه الفئة التي عبثــت بهــا البطالة بعــد تخرجها من اجلامعــة فوجدت نفسها في واقع مزر.

أما الشــخصية الثالثة فهو حمة نفة، هذه الشخصية التــي تبدو بائســة ومنهكة، لكنها تســيطر على املشــهد فــي نهايــة املطــاف ويفتضح قناعهــا، مثيرة فــي نهاية الروايــة أزمــة أوديبية (نســبة إلــى أوديــب) مضاعفة. فهذا الشخص ينكشــف، مغتصبا وقاتال وكاذبا. تقول رقيــة: «أجنبت له نبيال في كنف الــزواج وفرخ في جنح الظــالم من امــرأة أخرى. عفيفــة التي اغتصبها بنفســه وهو يخنقها ثم دفعها من الشرفة العالية. ففشخ رأسها وانفلقت شــرايينها الداخلية وماتــت». فإذا كان أوديب في األســطورة قد واقع أمه فهذا الرجــل اغتصب ابنته. وهو ما يعيد إلى األذهان سؤال األب. ذلك السؤال الذي يتحول عادة إلى ســؤال فلســفي، ففتحية بن فرج لم تقتل األب في روايتها ولم تقدمه في صورة القداسة. بدا غائبا ومجهوال ثم ينتهي في النهاية قاتال...

إنه ســؤال خطير يلوح في هذه الرواية التي تنتقل بنا مــن مفهوم قتل األب الفلســفي إلــى مفهوم األب القاتل واملشــرد وتلك هي الصــورة التي حتكمت في أغلب شــخصيات هذه الرواية. وميكــن القول ـ أيضا إن هذه الوجوه الهامشــية تصنع عالم الرواية بســير تثير الكثير من القضايــا وتتفاعل مع قضايا العصر، وترصــد اللحظــة االجتماعيـ­ـة الراهنــة فــي تونــس ومــا يلوح فيهــا من قضايا سوســيولوج­ية شــاغلة للمجتمع. ( البطالة، التحرش اجلنســي، االغتصاب، املثليــة، العنــف، احلياة اخلارجــة عن الســيطرة..). فـ»اجلاثــوم» روايــة أخــرى مــن روايات املهمشــني فــي تونس، حتــاول كاتبتها فتحية بن فــرج اقتحام الواقع االجتماعي واإلنصات إلى ليله وبرده وجوعه وأمراضه ومغامراته.

 ?? ?? فتحية بن فرج
فتحية بن فرج

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom