Al-Quds Al-Arabi

وحده املوت... يستمر

- رنا الصيفي ٭ كاتبة لبنانية

■ كّل مــا قــرأت وأقرأ، ال ُيبقي مــن أثر فَّي إال ابتســامة آنية لفكــرة المعة مــا، أو طيف فكرة إجماليــة واحدة يفــوق التعبير عنها ســتمئة صفحــة أحيانا. وأتســاءل ما جــدوى كل هذه الكتب وهذه اجلهــود التنويرية، وهــذه الِفكر املعاد تدويرهــا من زمٍن إلى زمــٍن إلى زمن؟ أنا نفسي كتبُت، وأكتب، ولو قّيض لي أن أرجع إلى اللحظة التــي رحت أخط فيهــا روايتي األولى، التي قد تكون األخيرة، البتلعــت حروفها دفعة وأجهضتها قبل أن تولد.

فكري ال قيمة له. وال فكر سواي. وال حتى فكر عظماء الفالســفة والعلماء واألدبــاء واخلليقة جمعاء. كلنا متســاوون فــي اعتقادنا أن الكلمة قوة.. أنها في البــدء كانت، أنها من مراتب فيض العقل، أنها تغير أمزجة وتبلســم أرواحا وتبرئ قتلة وتبّدل خرائط وتلغي حدودا وحتّل ســالما عامليا أو باطنيا بني ذات ال تني تتصارع مع ذاتها.

كذب.. لــو كان للكلمــة قوة، ألصغــى إليها البشر «العاقلون» ملا تناهشــوا كما يفعلون، ملا تفننوا في اختراع مدمــرات أحيائية وفيزيائية وكيميائية.. ملا بقروا باطن أمهم األرض وأفرغوا جوفها األســود ليتخموا سواد نفوسهم. لو كان للكلمة قوة، ملا تآكلتنا شــتى العلــل العقلية، ملا تكالبنا على بعضنا، ملا َنَحَر واحدنا اآلخر. حتى كلمة الكتب الســماوية لم تجِد معنا.. كببغاوات نرّددها وال أحد- على األرجح- يطّبقها.

ال أدري لــَم أكتــب كّل هــذا اآلن...من جتّمد وجدانــي رمبا.. ورمبا من شــّدة ســأمي كّل ما يدور مــن حولي.. من تيّقني بعــد تفّكر منطقي، ال تشــاؤمي، أن احلياة حقيــرة بتطاولها على وجودنا الهيوالني التافه بحق. لست سوداوية وال حتــى مكتئبة، ولو ظننتــم ذلك اآلن ورحتم تؤكدون عليه في قرارة نفســكم. فإن جئت إلى تعداد ال ِن َعم التي لي، أل ّنبني ضميري أش ّد تأنيب.

أكتب ألخفف من ثقل اخلــواء الذي ميألني، والــذي أعرف أنــه ميأل كثرا منكــم ممن بلغتم مثلي عتبة العدمية مبفهومها املباشــر. أوليس من عدم انطلقنا وإلى عــدم نعود؟ أكتب ألحرر هذه الفكرة املطبقة على روحي: احلياة ال معنى لها. مائعة هي حّد القرف. متغطرسة لظّنها أننا نكافح من أجلها، أن ســكناها أجسادنا منة منها علينا. أنها مســتحّقة كّل هــذا اللهاث في العدو خلف ثوانيها.

لي في أي حلظة أن أنهيها. لكنني أختار البقاء جملرد أن أثبت لها سخفها. سخيفة في النزر الذي تعطيه. ســخيفة في الكثير الذي تأخذه. نخشى املــوت وهو حاضر فيها. ففــي كل ما نفعل موت. ال حياة فــي القلق. ال حياة في الفشــل. ال حياة في اخلســارة. ال حياة فــي الفقــد. ال حياة في الالتكافؤ. ال حياة في احلب املشــروط. ال حياة في الصمــت. ال حياة في االغتصــاب، أو العنف أو التعذيب أو الَســجن أو التسّلط أو االستبداد أو البــرد أو اجلوع. ال حياة في الفقر. ال حياة في القناعة. ال حياة تستمر بعد كل هذا. وحده املوت احل ّي فينا يستم ّر.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom