ماريو فارغاس يوسا: نصف قرن مع بورخيس

يعتــرف ماريــو فارغاس يوســا فــي كتاب «نصــف قرن مع بورخيس» بــأن بورخيس كان مصــدر إلهام مســتمر له طوال حياته املهنية، ومعينــا ال ينضب للمتعة الفكرية. يقدم في الكتاب عمــا يجمع أنواعا مختلفة في عمل واحــد (مقابات، مراجعات، اســتجوابات، قراءات) بقصد إعطاء صورة كاملة وواضحة عن بورخيس اإلنسان وعن عامله األدبي، وعن العاقة التي أقامها مع بورخيس، والطريقة التي تفاعل بها مع إبداعه، واحملادثات التي أجراها معه في باريس وفي منزله في بوينس آيرس، وفيه يعبر بورخيس عن مواقفه من األدب ومن العملية اإلبداعية، ويتحدث عن الُكتاب الذين ُأعجب بهم، وعن أنواع الكتابات أو الكتب التي أثرت فيه. هذه مقدمة الكتاب.

ماريو فارغاس يوسا

تشــهد هذه اجملموعة مــن املقاالت واحملاضــرات واملراجعات واملاحظــات، على أكثــر من نصف قــرن من قــراءة كاتب كان بالنســبة لي، منذ أن قــرأت قصصه ومقاالته األولــى في «ليما» مصدرا ال ينضــب للمتعة الفكرية. لقد أعــدت قراءته عدة مرات، وعلى عكس ما حدث لي مــع كتاب آخرين لم يخيب ظني أبدا، بل على العكس من ذلك، كانت كل قراءة جتدد حماســي وسعادتي، وتكشف لي أسرارا جديدة لهذا العالم البورخيسي غير املعتاد في موضوعاته، الشــفاف واألنيق في تعبيراته. إن عاقتي الوثيقة مع كتــب بورخيس تتعارض مــع الفكرة التــي مبوجبها يعجب املرء، بداية، بكتاب مماثلني، الذين يعطون صوتا وشكا لألشباح والرغبات التي تسكنهم. قلة

من الكتــاب أبعد من بورخيس هم من دفعتني شــياطيني كي أصبح كاتبا: روائيا مهووســا بالواقع ومفتونــا بالتاريخ الذي يتشــكل من حولنا، وباملاضي الذي ما زال يثقل كاهلنا إلى اليوم. لم يغرني األدب العجائبي أبدا، وقليل من كتاب هذا التيار من بني املفضلني عندي. إن املوضوعات الفكرية والتجريدية البحثة التي ال تكتسي صبغة واقعية، مثل الزمن، الهوية،

امليتافيزيقــا، لــم تكن لتثيــر اهتمامي كثيــرا، وعلى العكس مــن ذلك، فإن املوضوعــات اجملتمعية مثل، السياســة، واإلثارة اجلنسية - التي ازدراها بورخيس أو جتاهلها - لها دور مهم في ما أكتب.

لكننــي ال أعتقد أن هــذه االختافات الكبيرة فــي امليول وفي الشــخصية كانت عقبة أمــام تقدير عبقرية بورخيــس، بل، لقد ساعدني جمال وعبقرية العالم الذي أبدعه بورخيس في اكتشاف حدود عاملي، كما أن براعة نثره جعلتني أدرك عيوبي. لهذا السبب قــرأت دائما - وأعدت قــراءة ـ بورخيس، ليــس فقط من خال البهجة التي يثيرها كاتب كبير، وإمنا بحنني ال ميكن حتديده،

وإحســاس بأن شــيئا من ذاك الكون الرائع الــذي خرج من خياله ونثره ســوف أحرم منه، بغض النظر عــن مدى إعجابي واستمتاعي به.