Al-Quds Al-Arabi

مسرحية «رحيل» اللبنانية: احلياة محكومة مبصران مقفل... الهجرة أو اآلخرة

- –

بيروت «القدسالعرب­ي» من زهرة مرعي:

جمهــور أدى عرض «رحيل» على املســرح. وكأن الرحيل يحتــاج دائما إلى جمهــور لتخفيف وقعه، أو لدعم ومواســاة املقربني من املهاجــر أو املهاجرة، الراحلة أو الراحل. «رحيل» اقتباس وإخراج غبريال ميني، عرض شــيق وموجع، أكد استاذية ميني وكما نتوقع دائما. كتب ميني في الكتيب املرفق مع العرض التالــي: «يتخبطــون في صراعات مع أنفســهم. مع أهلهم وجيرانهم. مع كل محيطهم.. يصدمهم الرحيل: إلى حياة أخرى أو نحو اآلخرة».

أدى «رحيــل» 23 ممثلة وممثال، حتركوا وتكلموا، وكأنهــم أوركســترا عاليــة االتقــان. لبعض ناس «رحيل» حقائب تالزمهم في احلياة.

وإن جنــا أحدهم منهــا في احلياة ســترافقه في مشــوار نهاية العمــر نحو األبدية. كثــر الراحلون، وعدد مشــيعيهم يتناقص. ومن خواتيــم الراحلني كانــت «الوالــدة». ضــاق بها منــزل ابنهــا، فأراد اســتيداعه­ا في مأوى للعجزة. شــكلت اإلنذار الذي ال ينفك يطرق على الوجــدان. ما كان ظهرها يختفي مع حقيبتها حتى يطل وجهها. وهكذا، مارســت على ابنها لعبة القط والفأر. تضاءل جسدها، وكانت تقع، تشّد الهمة وتتابع مشوارها زحفًا. رحلت وّدعتها قلة قليلة. احلياة والضميــر هي األم رحلت بعد كثيرين،

واســتراحت في مكان ال يطردها منه أحد، ومحجوز لها منذ الوالدة.

بانسداد املعدة بدأ عرض «رحيل». عائلة تستنجد بالرب كي يسهل طريق سيدها، ليخلص من محنته. وفق الطريقة التــي يعتمدها غبريال ميني في الكتابة والتوصيف والعبارات اخملتارة، فهو يشــبه احلياة القامتة بانســداد األمعاء الغليظ، واســتنكاف­ه عن امتام واجباته. «ضل يشد وما طلع منو شي». في هذا املشهد املشغول شــد األبصار واألذهان إلى مكونات عملــه. وفي نهايته رحل «الزغنــدي» مهزوما منتفخ البطن واملصران، ولم تســعفه قــراءة اجلريدة في تسهيل مسار امعائه. رحل برفقة اجلريدة واحلقيبة إلى مشوار اآلخرة.

«ما حدا طايق حــدا.. وما حدا طايــق حالو» هو حال الـ32 شخصية على املســرح. العائد من أمريكا مكســور اخلاطر مهزوز اخلطاب. والقاصد سويسرا يســتغني عن ماله مقابل حلســه من جسد الغانية، وطيف والدته ال يفارقــه ومينعه من تنفيس احتقان جسده. وكأنه يعيش عقدة خيانة والدته مع أخرى. قد يكون القابض على مقبضي نعش املوتى هو األكثر راحة وتصاحلــًا مع ذاته. احالم هذا وتلك تتكّســر. وحياة املتزوجــن­ي تنقمها بروتوكــوا­لت الزوجات. وكازانوفا األرامل يلقى املصير الذي اســمه الرحيل، حامال كذبه وتدجيله ولســانه املعســول إلى القبر. إذا. جدد غبريال ميني وجتدد في شــغف مســرحي مشــغول بعمق اســماه «رحيل». وضع على املسرح كوراًال مــن املمثلني لــكٍل منهم دوره، فيمــا يلتقون جميعهم على وحدة الصــراع مع الذات. رمبا هذا هو حال اللبنانيني في هذه املرحلة. متصارعون مع ذاتهم ومع من حولهم، متخاصمني مع دواخلهم ومع دواخل من حولهم. إنها حياة كارثية تتداخل في مســاحات صمتها موسيقى تسلب اإلحساس.

املســرح حاجة يتبادلها غبريــال ميني مع الناس. هم يحتاجون املشــاهدة. وهو يحتاج الوقوف على اخلشبة وإن بشخصيات ممثليه. يقدم غبريال ميني مشــروعه الفني عبر مفردات بســيطة يختارها من قاموس لغوي متداول بني الناس.

قاموس غير داخل في حسابات النخبة. متاما كما اختار شــخصياته الكورالية، فجاءت تشبه اجملتمع وال إقصــاء ألية فئة منــه. حضر املتأتئ، والشــاب احملدودب الظهر، والفتاة املســتعين­ة بجسدها للفوز بقــوت يومها. والغريب أن اجلميــع رحل مع حقائب تعود ملنتصف القرن املاضي، وحدها الشابة الغاوية جرت خلفها حقيبة عصرية مدولبة؟

بعد مواكب اجلنازات، ونــدوب األحياء، وقهرهم املتطايــر علــى اخلشــبة، وانتظارهــ­م لدورهم في الرحيــل، جنح غبريــال ميني في ايقــاظ الكامن من وجع داخل كل متفرج على مسرحه. قال ما يريده عبر كورال أداره كما تدير ورشة النمل نفسها جلمع مونة الشتاء.

املؤونة التــي خلصنا بها فــي نهاية عرض ميني أنه فنــان بنكهة خاصــة جدًا. اســتاذ حّصل درجة الدكتوراة منذ زمن بعيد.

أكادميي واســتاذ في معهد الفنــون في اجلامعة اللبنانيــ­ة، لكنه متمــرد على القواعد والتســميا­ت والتعريفات. لهذا نكتفي بالقول إنه أضحك اجلمهور مبرارة، وابكاه في اخلتــام من حقيقة ال هروب منها. أنه الرحيل.

 ?? ?? بوستر الفيلم
بوستر الفيلم

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom