Al-Quds Al-Arabi

ملاذا ال تتخلى الدول املغاربية عن الفرنسية؟

- نزار

*كاتب مصري

فعلتها في الســابق دولة افريقية مغمــورة وقلبــت الطاولــة علــى باريــس لتتعامــل باإلنكليزي­ة بدال من الفرنســية. فما الذي مينع الدول املغاربية اآلن من أن تسير على خطى رواندا وتســتعيض عن الفرنســية بالعربية؟ والســؤال الــذي يطرح نفســه اليوم هو ما الذي تعنيه لغة موليير للمغاربيني؟ هل هي قيد اســتعماري أبدي سيبقى معيقا النطالقهــ­م وحتررهم وســيظلون عاجزين ولعدة اعتبــارات عن كســره والتخلــص منه؟ أم هــي نافذتهم الوحيدة على العالــم اخلارجي، وغنيمــة احلرب األغلى عندهم كما تصور ذات مرة كاتب ياسني؟

إن أي تونســي أو جزائري أو مغربي أو موريتاني يعلم جيدا أنه متى قرر أن يســتغني عن الفرنســية ويستخدم العربية أو حتى األمازيغية بدال منها، فإنه لن يكون عاجزا فقــط حينها عن قضاء أبســط شــؤونه اليوميــة، بل إنه ســيصطدم فورا بواقع معاد ومضاد متامــا للفكرة، وغير قابل أو مهيأ باملرة ألن يتفهــم أو يتفاعل إيجابا مع قراره، وسيجد نفسه ومن دون أدنى شك مقصيا ومنبوذا ومتروكا على الهامش ومحسوبا على أقلية، إن لم توصف باملتعصبة واملتطرفة، فســتوصم في أدنى األحوال بأنها ناقصة عقال ووعيا وحتضرا ومدنية.

وليســت تلك املفارقــة الوحيدة في الشــمال االفريقي العربــي واألمازيغي، فالشــيء الذي يفتــرض أن يكون بسيطا وعاديا هناك، كأن يلتقي القادة املغاربيون ببعضهم بعضــا، والذي عجــزوا عنه منذ ســنوات، ميكن للرئيس الفرنســي أن يقدم عليه، من دون أي مانــع، أو عائق، فهو باســتطاعت­ه التواصل مثال وفي أقل من شهر واحد كما فعل هذا الشــهر، وبشــكل منفصل مع ثالثة قادة مغاربيني على األقل وهم، عاهل املغرب الذي قيل إنه اتصل به في األول من نوفمبر/تشرين الثاني احلالي وأجرى معه محادثة هاتفية دامت، حسب مصادر إعالمية ما يقرب من نصف ساعة ولم يعرف فحواهــا بعد، ورئيس اجلزائر الــذي التقاه بعدها فــي قمة املناخ مبصــر ليعبر له عن «تهنئتــه بنجاح القمة العربية» التــي احتضنتها بالده، ثــم رئيس تونس الذي قابله في القمة الفرانكفون­يــة التي عقدت في جزيرة جربة التونســية، وحتدث معه عن «أواصر الصداقة التاريخية وروابــط التعاون والشــراكة املميزة القائمــة بني تونس وفرنســا»، حســبما جاء في البيانني الرسميني اجلزائري والتونســي. ومع أنه لــم يكن غائبا أبدا عــن بال ماكرون أن عالقة تلك الدول ببعضها بعضا، ليســت على مســتوى واحــد، فهي وفي الوقت الذي تبدو فيه طبيعية ورمبا حتى حــارة وودية بني تونس واجلزائر، فإنهــا ما تزال متوترة وشبه مجمدة بني املغرب وتونس، وباردة ومقطوعة متاما بني اجلزائر واملغرب، إال أن ذلك قد ال يعني شــيئا لســاكن اإليليزيه، أو يشــكل أي تهديد لباريــس، أو أي خطر على مصاحلها الواســعة واملمتدة في تلك املنطقة. فمن املؤكد أن مصادر القلق الفرنســي أعمق وأعقد من ذلك بكثير، ولعل واحــدة منها، وحســبما جاء في أحــدث تصريح للرئيس الفرنســي في تونس، هي التراجع امللحــوظ للغة موليير في افريقيا، وما قد يعنيه ذلك من انحسار للنفوذ الفرنسي التقليدي في أجزاء واســعة من القارة. واملزعج في القصة أن يحصــل ذلك في واحدة من أكثــر اجلهات التي تعتبرها باريس قاعدة انطالقها األساســية في القارة السمراء، بل حتــى حديقتها اخللفية هناك، ونعني بهــا املغرب العربي. ومع أنه ليس معروفا إن كان ماكرون قد كشف للملك محمد الســادس، أو الرئيس عبد اجمليد تبون، أو قيس سعيد عن شــيء من تلك الهواجس، إال أن املؤكد هو أنه لم يتردد أبدا مبناســبة القمة الفرانكفون­ية في أن يعرض ولو جزءا منها على مجموعة من الشــباب الذين التقاهم الســبت املاضي على هامشــها في جزيــرة جربة في اجلنوب التونســي، ويقول لهم بشــكل واضح وصريــح إن «التحدي احلقيقي أمام الفرانكفون­ية اليوم يتمثل في تبني مشــروع استعادة مكانة اللغة الفرنســية، وحتى مشــروع صمــود وتعزيز استخدام هذه اللغة، ولو بشــكل غير أكادميي، خاصة في القــارة االفريقية، حيــث تظل اللغة الفرنســية هي األكثر شــيوعا»، قبل أن يضيف، «أن اســتخدام اللغة الفرنسية شهد تراجعا رغم النمو الدميغرافي في افريقيا، الذي ساهم بزيادة في حدود ســبعة في املئة في عدد مســتخدمي هذه اللغة»، وأن «الفرنسية شهدت تراجعا في استخدامها لدى الشعوب املغاربية، عكس ما كان عليه الوضع قبل عشرين أو ثالثني سنة» على حد تعبيره، لكن من كان املعني املباشر بتشــخيص ماكرون للتراجع الذي شهدته اللغة الفرنسية فــي املنطقة؟ هــل هم املســؤولو­ن الفرنســيو­ن الذين قد يكونون قصروا، أو تهاونوا في االهتمام بترســيخ النفوذ الفرنسي في الشــمال االفريقي؟ أم هي سلطات تلك الدول التــي ضاقت ذرعا على ما يبدو مــن صلف باريس، وباتت تبدي في الســنوات األخيرة بوجه خاص نوعا من التملل واالمتعاض، وحتى الرغبة بالتمرد، ولو بشكل محدود على الهيمنة اللغوية والثقافية واالقتصادي­ة الفرنســية عليها، ملوحة بالبحث ال فقط عن شركاء اقتصاديني جددا لها، بل حتى حضاريني وثقافيني في الوقت نفسه؟

لن يختلف اثنــان حول ما قاله الرئيس الفرنســي عن تراجع الفرنســية في الدول املغاربية، مقارنــة مع ما كان عليه احلال قبل عشــرين أو ثالثني عاما. لكن في أي سياق أو ظــرف حصل ذلك؟ وهل أنــه كان نتيجة تصميم حقيقي وإرادة قوية واختيار اســتراتيج­ي معمــق من جانب تلك الدول إلعــادة االعتبار للغتهــا األم، أي العربية، التي هي حســب قوانينها ودســاتيره­ا اللغة الرســمية األولى؟ أم أنــه مت فقط العتبــارا­ت داخلية أو خارجيــة بعيدة متاما عن ذلك اإلطــار؟ لعل الوضــع احملزن الذي تعيشــه لغة الضاد فــي الدول املغاربية كافة، يجعــل االفتراض الثاني أقرب ترجيحا، فحتى اإلجــراءا­ت والقرارات التي أخذتها الســلطات في السنوات األخيرة في اجلزائر مثال، وبدرجة أقل في املغــرب وفهمت حينها على أنهــا محاولة للحد من الهيمنة الثقافيــة واللغوية لباريس مثــل اعتماد تدريس اللغة اإلنكليزية في املــدارس اجلزائرية بداية من املرحلة االبتدائيـ­ـة، أو تعميم بعض الــوزارات ملصاحلها بضرورة التعامــل حصريا باللغة العربية، ومنع اســتخدام أي لغة أخرى فــي املراســال­ت والتقارير ومحاضــر االجتماعات الصادرة عنها، فإنها بقيت مرتبطة بشكل أساسي بالظرف الذي أخذت فيه، والذي شهد نوعا من البرود في العالقة مع فرنسا، أو ظلت حبرا على ورق، إما للعجز عن تطبيقها، أو لغياب اإلرادة فــي فرضها على أرض الواقع. وألن ما يفعله اجلاهل بنفســه قد يفوق مرات ما يفعله العدو بعدوه، فإن تصرفات الفرنســين­ي مع املغاربيني، التي غالبا ما تتســم بالعجرفة وســوء التقدير، تبقى العامــل األهم في تغذية النفور النســبي هناك من اللغة الفرنسية، لكن املشكل هو أن الدول املغاربية ال تســتطيع قطع احلبل السري مع لغة موليير ألنها تخشــى القفز في اجملهول إن هي اختارت لغة أخرى غيرها كاإلنكليزي­ة مثال، كما أنها ال جترؤ على اختيار لغتها األم بديال عنها، ألن ثقتها بها تبدو مهزوزة ومعدومة. وألجل ذلك فإنها ما تزال إلى اآلن بعيدة جدا عن رواندا.

*كاتب وصحافي من تونس

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom