عمال األمس... أبناؤهم أبطال اليوم!
ســتبقى أوروبا مدينــة باعتذار للبشــرية قاطبــة ليس فقــط ألنها اختارت مؤخــرا التنمر على عاصمة املونديال، بل ألنها نســيت أيضًا أن تاريخها كان حافًال باســتعمارها لــدول الفقــراء وأنها قد جــاءت بهؤالء الغالبة إلى أراضيها ليســاهموا في بناء بناها التحتية وقصورها ومصانعها وشــوارعها وجسورها وأنفاقها وأبراجهــا وفنادقها ومســارحها ومعارضها ومتاحفها وسجونها وقالعها، وكل ما يخطر وما ال يخطر على بال.
عمال األمس وبعد أن أحضــروا باإلكراه وعملوا في ظروف أوروبية ال آدمية، ومن دون بيئة قانونيا حامية لهم، حصلوا لقاء اســتعبادهم على جنسية الدول التي جاءت بهم. ومع مرور الزمن كبر أبناء هؤالء فأصبحوا جزء ًا أصي ًال من القــوة العمالية، وركن ًا من أركان الفرق الرياضية مبا فيها كرة القدم.
وعليــه لم نعد نرى في املالعب، وفــي تركيبة الفرق األوروبية إال تنوع ًا عرقيـ ًـا كبير ًا وكبير ًا جد ًا، إذ يكفيك أن تشــاهد مبــاراة لفرنســا أو بريطانيا أو إســبانيا أو أملانيــا أو البرتغــال، إال وجتــد عــدد الالعبني من أصحاب البشرة الســمراء يتفوقون على سكان الدولة األصليني. وبذلــك فإن أبناء عمال األمــس باتوا اليوم أبطال املشــهد الكروي، نتابعهم، نحبهم، نعشق لعبهم ونكبــر فيهم إنســانيتهم وتألقهم. كل هــذا وأوروبا ما زالــت غارقة في دياجير التنمر علــى قطر، لقاء ما دون في سجلها عن التعامل مع العمال الذين استقدموا لبناء منشــآت املونديال على اختالفها، من دون أن تســمح
أوروبا لنفسها أن تستذكر هي تاريخها املفعم باجلرمية واالستقواء والعبودية، ودومنا أن تدين نفسها ملا كانت ترتكبه مــن موبقات ومظلمات. ولعل تصفح ســجالت منظمة العمــل الدولية، وتاريخ شــعوب أوروبا، كفيل بفضــح حجم النفــاق والتضليل وازدواجيــة املعايير التي ينتهجها البعض في أوروبا في رفع البعض والنيل من البعض اآلخر. ولعل ما قالــه مؤخرا رئيس االحتاد الدولــي لكرة القدم األوروبي اجلنســية واالنتماء إمنا كان كافيــا لفضح تلــك املواقف الفاقعــة واخملجلة. أما قضايا احترام ثقافات الشعوب ومعتقداتها فإن النفاق األوروبي تراه فــي ذروته، فأوروبا تصــر على التزام زوارها وشــعوبها والجئيها بثقافاتها ومعتقداتها، لكن عندما تأتــي لغيرها من الدول فال قيمــة ملبدأ االحترام وااللتــزام، بل تصبح تلك الدولة مطالبة بأن تســتبيح مقوماتهــا االجتماعيــة وضوابطهــا األخالقية، حتى تتواءم ومتطلبات مســتعمري األمس. نعم نعتب على قطر أحيانــا، لكن األمر ال يخصها وحدهــا اليوم فقط، وإمنــا يعكس نهج ًا متكرر ًا ومســتدام ًا من االســتعالء املقيت. هذا االســتعالء والتكبر إمنا هو دليل قاطع على استمرار ســواد العقلية االســتعمارية والكولونيالية املقيتة لدى البعض األوروبي، التــي تقدس ذاتها على حســاب اآلخرين، بل ترى أنها أســمى من الشــعوب التي حكمتها وســرقت ثرواتها ونفائسها وآثارها ذات يوم. ومبــا أننا بصــدد احلديث عن اآلثار فــإن زيارة واحدة ملتحفي اللوفر في باريــس واملتحف البريطاني في لندن مثال، كافية الســتطالع الشــواهد الســامية املنهوبة، التي تدلل على براعة الشعوب التي استعمرت ذات يوم، براعة واضحة في الهندســة والعلوم والطب والعلوم اإلنســانية ومعالم الديانات السماوية، التي أكدت على مبادئ العدالة واألخالق وسواســية البشر وحماية حقوقهم وصون معتقداتهم. فهل يحق ملن سرق تلك الشواهد والنفائس وعرضها في متاحفه، أن يعطي للبشرية دروسا في القيم واألخالق؟!
إن ذاكــرة الشــعوب لم متــت بعد وهــي كفيلة بأن تذكر أربــاب االســتعمار األوروبي بأشــكاله اخملتلفة باملثل اإلنكليزي الشــائع: من بيته مــن زجاج ال يجوز له أن يلقي على الناس احلجــارة! فهل يعتبرون خالل املونديال وبعــده؟ فيتراجعون؟ ويعتــذرون؟ ننتظر ونرى!
أوروبا تصر على التزام زوارها وشعوبها والجئيها بثقافاتها ومعتقداتها، لكن عندما تأتي لغيرها من الدول فال قيمة ملبدأ االحترام وااللتزام
*كاتب فلسطيني s.saidam@gmail.com