Al-Quds Al-Arabi

في التفجيرات واملؤامرات واملناورات

- جلبير األشقر ٭ ٭ كاتب وأكادميي من لبنان

■ بني الشــفافية السياســية و«نظريــة املؤامرة» تقع املؤامــرا­ت احلقيقية التي شــهد التاريخ منهــا ما ال ميكن إحصــاؤه. واحلقيقــة أن «نظرية املؤامــرة» تولدها كثرة املؤامرات احلقيقية التــي جتعل بعض الناس ينزعون إلى الظن أن كل ما يجري في السياســة من صنع التآمر أو يكاد. هذا ما يفســر انتشــار «نظرية املؤامرة» في منطقتنا بوجه خاص، إذ دخلت القرن العشــرين سياســيا في أعقاب اتفاقية ســرية بني البريطانين­ي والفرنسيني على تقاسم «الشرق األدنى» على أنقــاض اإلمبراطور­ية العثمانية، التي شــكلت إحدى أعظم غنائــم احلرب العاملية األولى. وقد حفلت منطقتنا بشــتى أنواع املؤامرات، إذ كانــت طوال القرن املنصرم مســرحًا لصراعات متعددة فاقمها ترّكز الثروة النفطية في قســم منها. وقد شهدت املنطقة عددًا قياســيًا من االنقالبات العســكرية التي هي بطبيعتها ثمرات تآمر بني من ّفذيها.

ومما يّســر أيضًا املؤامرات أن االستبداد السياســي وّلد لدينا «اإلرهاب»، وهي تســمية أطلقتها األنظمة تارًة على املقاومة املســّلحة املشــروعة (على غرار تسمية الدولة الصهيونية للمقاومتني الفلســطين­ية واللبنانية) وتارًة أخرى على اإلرهاب احلقيقي الذي يستهدف املدنيني. ومبا أن هذه األعمال املسّلحة غالبًا ما تكون محاطة بالسّر، يكتنف بعَضها الغموض على منوال العمليات التي تكاثرت في العراق خالل السنوات العشرين املاضية، أي منذ بداية االحتالل األمريكي في عام .2003 وقد جرت العادة لــدى أجهزة اخملابرات على أن تنفذ هي ذاتها أعمال تفجير تنســبها إلى أحد األطراف اإلرهابية لتبرر بعض السياسات االستثنائي­ة.

وهي عــادة متيز األنظمة القائمــة أصال على حكم اخملابــرا­ت بوجه خاص، وقد كثــرت في منطقتنا منــذ منتصف القرن املنصرم. وطبعا ليســت مثــل تلك األنظمة محصورة بربوعنا، بل إن أعظمها شأنًا في عاملنا الراهن النظام القائم في روسيا منذ بداية هذا القرن والذي يرأســه رجٌل، هو فالدميير بوتني، كان عميًال لدى اخملابرات الســوفييت­ية، ثم ترأس خلفها الروسي وقد أتى إلى احلكم بصحبة من يسمونهم في روسيا «ســيلوفيكي»، أي زمرة رجال اخملابرات وســائر األجهزة األمنية ّاملتسّلطة على احلكم. ومن املعروف أن بوتني الذي سّلمه الرئاسة بوريس يلتسني املدمن على الكحول، فرضه فــي احلقيقة «جهاز األمن الفيدرالي»، أي جهــاز اخملابرات، بعد أن فرض على يلتسني أوًال تعيني بوتني على رأس اجلهاز نفسه، وكل هذا ثمنًا للعفو عّما ارتكبه يلتسني وعائلته من أعمال فاسدة تستوجب سجنهم.

ومن املعروف أيضًا أن بوتني لم يكن له أي رصيد شعبي عند توّليه رئاسة الوزراء قبل تسليمه رئاسة اجلمهورية، وقد تبّدلت احلالة بعد التفجيرات التي طالت مدنيني في موســكو ومدينتني أخريني في خريف عام .1999 فقد نسبتها األجهزة األمنية إلى الشيشان مبا ب ّرر إشراف بوتني على حرب جديدة طاحنة ضد بالد الشيشان، شّكلت مصدر الشعبية التي خولته تكريس رئاسته بانتخابات أجريت بعد أربعة أشهر من تعيني يلتســني له رئيســا بالنيابة عنه. ويغلب بني املراقبني واملؤرخني االعتقاد أن التفجيرات التي ُنسبت إلى الشيشان كانت في احلقيقة من صنع اخملابرات الروسية ذاتها.

ونحن اليوم أمــام حالة أخرى، بعد حاالت كثيرة، من تفجيرات تثير تســاؤالت مشــروعة حول حقيقة منّفذيها أو من يقف وراءهم. واملقصود هنا التفجير الذي وقع في شــارع االستقالل في إسطنبول قبل عشرة أيام والذي أسرعت السلطات التركية إلى نسبه إلى احلركة ال ُكردية التي تتمحور حول «حزب العمال ال ُكردستاني»، مؤكدة على أن امرأة تنتســب إلى «حزب االحتاد الدميقراطي» احلاكم في منطقة الشــمال الشرقي الســوري واملعروف بارتباطه باحلزب آنف الذكر هي التي قامت بتنفيذها. أما الذي يثير تساؤًال مشروعًا إزاء هذه احلادثة، فليس نفي احلركة الُكردية ما ُنسب إليها، بل وإدانتها للتفجير، إذ إن حاالت نفي املسؤولية عن أعمال إرهابية من طرف مرتكبيها كثيرة، وقد ارتكب «حزب العمال» أعماًال إرهابية عديدة في حربه املزمنة مع الســلطات التركية. ليس ذاك النفي ما يثير التساؤل إذًا، بل توقيت التفجير وإسراع احلكم التركي إلى اســتغالله تبرير ًا لش ّن غارات ج ّوية على مناطق االنتشار ال ُكردي في العراق وسوريا، مع وعيدها باجتياح وشيك لتلك املناطق.

فما هو الذي يثير الشــكوك في توقيت التفجيرات؟ مــن املعروف أنها حصلت في ظرف عام يتمّيز منذ أشــهر عديدة بهبوط مستمّر في شــعبية رجب طيب أردوغان وحزبه احلاكم على خلفية أزمة اقتصادية متفاقمة، تقع مسؤوليتها بصورة رئيسية على تشــّبث أردوغان بانتهاج سياسة اقتصادية تتنافى مع بديهيات علم االقتصاد. وقــد أّدت هذه احلالة بصــورة طبيعية إلى انزالق مســتمر في شــعبية احلكم في اســتطالعا­ت الرأي العام، مبا حــداه على إيجاد مخارج سياســية تصرف األنظار عن احلالــة االقتصادية. وفي هذا اإلطــار رأى أردوغان أن يدغدغ مشــاعر قاعدته االنتخابية التقليدية بإجراء تعديل في الدســتور ُيدخل فيه أمرين ال عالقة بينهما، أحدهمــا حرية ارتــداء احلجاب (التي ال وجود ملــا يهددها في تركيــا الراهنة على اإلطالق) وثانيهما نفي حقوق املثليني واملثليات. والقصد الشــفاف من هذا املشروع إحراج «حزب الشــعب اجلمهوري»، احلزب املعارض الرئيسي، الذي أدانه بوصفه مناورة رخيصة ترمي إلى إلهاء الناس، ورفضه بالتالي.

ومبا أن تعديل الدســتور يســتوجب املرور عبر البرملان بأكثرية تفوق األكثرية البســيطة، وال يحوز التحالف احلاكــم القائم بني «حزب العدالــة والتنمية»، الذي يتزعمــه أردوغان، و«حزب احلركــة القومية»، اليميني املتطــرف والقومي التركي املتعصب، ال يحوزان على األكثرية املطلوبــة، أخذ احلزب األول يتفاوض مع «حزب الشــعوب الدميقراطي» املعارض واملتعاطف مع احلركــة الكردية. واحلال أن احلكم التركــي كان قد زج بزعيم هذا احلزب األخير، صالح الدين دميرطاش، في الســجن بطريقة أدانتها منظمات حقوق اإلنســان واحملكمة األوروبية حلقوق اإلنســان على أنها انتهاك ســافر للدميقراطي­ة. أما والغاية من التفاوض على ما بدا، فهي احلصول على تأييد «حزب الشــعوب» للتعديل الدستوري لقاء ما لم ُيفصح عنه، لكّن املرّجح هو أن يكون اإلفراج عن زعيمه.

وقد حصــل اجتماع في ثاني أيام الشــهر اجلــاري بني وفد من «حــزب العدالة والتنمية»، يترأســه وزير العدل، ووفد من «حزب الشعوب الدميقراطي»، وقد فاجأ االجتماع جميع املراقبني. فظّن الناس أن حليف احلزب احلاكم ســيحتّج على إجراء االجتمــاع مبا أنه متع ّص ٌب ضد احلركة ال ُكردية، غيــر أن دولت بهجلي، زعيم «حزب احلركة القومية»، ضاعف املفاجأة بإعالنه أمام البرملان، بعد االجتماع املذكور بأيام، أنه يؤيد التفاوض مع «حزب الشعوب» من أجل االتفاق على التعديل الدستوري.

فيــا ُترى، ما هي مصلحة احلركة الُكردية في تنفيذ تفجير في وســط إســطنبول في هذا الظــرف بالذات؟ وكيف ال يأتي في البــال أن املدبرين احلقيقيني للتفجير قد يكونون من الذين ال يرضون عن العودة إلى نهج تفاوضي مع احلركة الكردية، مثلما كان جاريًا خالل ســنوات عديدة بعد توّلي «حزب العدالة والتنمية» للســلطة، قبل تراجعه االنتخابي األول في عام 2015 الذي عوض عنه بالتحالف مع احلركة القومية التركية واالنقالب على احلركة القومية الكردية وإعادة إشعال جبهات احلرب معها؟ إنها أسئلة مشروعة لن ندرك اجلواب احلقيقي عنها سوى رّبما بعد زمن طويل، وهي تنضاف إلى سلسلة األمور املشبوهة التي حفل بها تاريخ منطقتنا وهي ال تزال بعيدة جدا عن الدميقراطي­ة والشفافية السياسية.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom