Al-Quds Al-Arabi

كرة القدم... سيرة «الرجل األبيض»

- واسيني األعرج

نواجه اليوم، وبشــكل واضــح، عقلية «الرجــل األبيض» الذكي والفعــال تاريخيًا، واحلامــل الناقل للحضارة إلى بشــرية بدائية؛ لتنويرهــا والدفع بها إلى التقــدم. نعرف جميعا اليــوم نتائج هذه األيديولوج­يا في أمريكا اجلنوبية وفي االســتعما­رات احلديثة التي أبادت شــعوبًا بكاملها. ال يزال الغرب االستعماري حتى اليوم يسير وفق املالك للحقيقــة املطلقة، فال حقيقة خارجــه وخارج منطقه. في اخللفيــة غير املرئيــة، واملرئية أحيانــا، تتجاور احلقائــق، املعرفة والقوة العســكرية. ما يســمى حضارة خاضع أصال لهــذه العقلية املغلقــة. «الرجل األبيــض» كان وراء العبوديات اخملتلفة في أســوأ صورها ومراحلهــا التاريخية التي ابتذلت اإلنســان وحولته إلى ال شــيء، في أكبر معاناة عرفتها البشــرية، ال يزال اإلنسان في معناه اجملــرد إلى اليــوم ضحية لها، فــي أكبر حرب عامليــة دمرت املاليني وضعت حضارة بشرية بكاملها على حافة اخلراب والنهاية، ونتجت عنها أكبر جرمية معادية ضد اإلنســان، ليس للسامية فحسب ولكن لإلنسانية، وليس الهولوكوست إال وجهها املكشوف. مورست القوة على األضعف، واألقل قبوال، الشــخصية اليهوديــة وقتها. ومت محو بشــر عيبهم األوحد أنهم كانوا يهــودًا. النقد الذاتــي يقتضي حتمًا العودة إلى أخطاء الذات التي ارتكبها «الرجل األبيض» بأيديولوجي­ة التفــوق التي لم يكن هتلــر إال التعبير عنها، ولكنهــا كان مبطنة في أعماق «الرجــل األبيض». وفق أي منطق متت إبــادة أكثر من مليون عراقي في حملة عسكرية غير مســبوقة، بينت الدراسات التالية إلى إيهام أســبابها: امتالك الســالح النووي. حملة قاتلــة موجهة ليس ضــد النظام العراقي، ولكن ضد العنصر احلضاري العميق، بحيث مت تدمير العراق ليس فــي بنيته التحتية ولكن أيضا في بنيته الثقافية، فنتج عن ذلك سرقة أهم القطع التاريخية النادرة في املتاحف ونهبها بشــكل معلن، في أكبر جرمية على املباشــر، في بشــاعة بدائية غير مســبوقة وفي تشريد شعب في القرن العشــرين وكأن شيئ ًا لم يكن. «الرجــل األبيض» الذي ال يزال يرى في اآلخر أنــه املتخلف دوما وال يرى «احلدبة التي على ظهره» كما تقول حكاية اجلمل ذي الســنمتني الذي ظل يتمرغ ويضحك من صديقه اجلمل عندما ســأله هذا األخير: ما الذي يضحكك في؟ قــال: أضحكتني «احلدبــة» التي حتملها على ظهرك. حلظتها، بدأ ّاجلمل الثاني يتمرغ ويضحك بال توقف. فســأله: ملاذا تضحــك يا أخي؟ قال أضحك ألنك حتمــل على ظهرك «حدبتني». ال ميكن فهم موقف بعض الهياج الغربي مــن كأس العالم خارج هذه العقلية الظاملة واملعتدية بشكل سافر. الذي مينح الدروس، عليه أوًال أن يكنس أمام بابه. هل من الضروري تسييس كرة القدم للتعبير عن رفض؟ عادة وفي مثل هذه احلاالت، ينصب احلديث في أكبر تظاهرة عاملية عــن الضمانات األمنية والرياضية التي توفرها البالد، والبنية التحتية التي ُهيئت ملثل هذا التظاهــرة الكونية، وهل احترمت آجال اإلجناز املتفق عليها. وتأتي الفيفا كمراقب ملدى انســجام الوعود في إنشــاء البرامج واملالعب وأدوات الترفيه املصاحبة لذلك. فجأة، تتم مغادرة الرياضة ومستلزماته­ا ويبدأ احلديث عن حقوق اإلنسان؟ في بلدان اخلليج وحقوق العمال الذين كانوا ضحية لكل هذه املنشــآت الرياضيــة؟ بحســب الكونفدرال­ية النقابية الدوليــة، هناك حوالي 1200 ضحية بناء صاحبت بناء املنشــآت، من النيبال والهند؟ بغض النظــر عن دقــة اإلحصائيات مــن عدمها، كم من شــخص توفي في جنوب إفريقيا والبرازيل مبناســبة إجناز املنشــآت حتضيرا لكأس العالم. ليســت قليلة مطلقا، ومت طمس ذلــك وال أحد وضع األمر على الواجهة. كم ميوت يوميا في احلوادث املعزولة هنا وهناك، في أوروبا وأمريكا وآســيا؟ ال يبرر هذا الكالم الضحايــا الذين ميوتون في مثل هذه احلاالت، روح اإلنســان ثمينة كيفما كانــت الظرفيات احمليطة. أستحضر في هذا السياق سيدنا املسيح وهو يدافع عن مرمي اجملدلية ويصرخ في وجه راجميها: «من كان منكم بال خطيئة فليرمها بحجر» ليلتفتوا قليال نحو الســنمة التي يحملونها علــى ظهورهم قبل لوم غيرهم. الذي لم تقله املؤسســات هو بالضبط مــا صرحت به مجلة األصداء في ‪les Echos 2013‬ ، «هناك صعوبة للفوز بعقود اإلنشاء أمام الشركات اآلســيوية وتركيا». املناورة الكبيرة لضمان أكبر جزء من الكعكة، باملنطق املادي البحت، وليســت قضية حقوق اإلنســان إال الواجهة اخلارجية حلالة صــراع خفي؛ أي اخلوف من بناء مدينة لوســيل الرياضية الضخمة خارج املتعامــل األوروبي، كما صرحت بذلك بيونس أنســايدر ‪Busines Insider‬ واخلوف من أن تكون حصة الشــركات األوروبية صفرا في النهايــة، ألن املناقصات تضع في الواجهة الشــركات األوروبيــ­ة املكلفة مع الشــركات األقل تكلفة مع نفس اجلودة كالشــركات التركية والهنديــة والصينية، أي هناك البدائل اليوم للشركات األوروبية الضخمة التي استولت على معظم األســواق، في اإلجناز، في األوقات املطلوبــة، وبجودة عالية. أي أن األوروبي لم يعد هو مركز العالم وســرته، وعلى «الرجل األبيض» أن يضع نفسه في مواجهة مرايا عالم يتغير بسرعة. الغطرسة العسكرية ليست هي القوة الوحيدة التي تفرض سلطانها.

كنت أشــاهد بالصدفة إحــدى القنوات الفرنســية ،CNEWS املعروفة مبعاداتها للعرب واملســلمن­ي وخطها العنصري املعلن الذي ابتذل العنصرية كليا، ألرى كيف يرون كأس العالم في ظل حتليالتهم الغريبة، من أي زاوية ســيتناولو­نها؟ لم أستغرب من عقلية «الرجل األبيض» التي ظــل محللو القناة يســيرون وفقها. لكــن لم أتصور انهيارًا للقيم حتــى تلك الدرجة. فقد حولــوا كأس البيرة إلى قضية دوليــة، ومددوا األمــر حتى وصلوا إلى مالمســة حقوق اإلنســان من خــالل كأس البيرة، مــع أنه ال يوجد منع للشــرب إال في املالعب ومحيطها. أما في الفنــادق واألماكن اخملصصة لذلــك فلم يتم منعها مطلقا. وغرقت حقوق اإلنســان في كأس بيرة. فــي النهاية، لكل بلد احلق في شكل التنظيم الذي يراه مناســبا لتاريخه وثقافته وقيمه. تصنيع العــداوة من الفراغ. العداوة واحلقــد والضغينة يتم بناؤها شيئًا فشيئًا حتى عندما يتعلق األمر ببلد كقطر، الذي استجاب كرويًا لكل املطالب الرياضية األساســية. فقد بدأت الضغينة منذ اللحظات األولى املصاحبة لفوز قطر بأحقيــة تنظيم كأس العالم. يومها، بدأت احلملة املســتميت­ة ضــد هذا البلــد الصغير: احلــرارة والصعوبات الطبيعية؟ صعوبات احلركة واالســتيع­اب؟ فكانت اإلجابة بدراسة ذكية للمعطيــات الطبيعية، وبإبداع في املالعب غير مســبوق، ومع ذلــك لم يصمتوا وظلت الرغبة في انتــزاع كأس العالم رهان «الرجل األبيــض» أي العنصري. في ظل تدمير التوازنــا­ت الطبيعية، لم تعد درجة احلرارة رهنا على بلدان اخلليج. لــو افترضنا أن كأس العالم جرت فــي أي بلد أوروبي، فقد تخطت درجة احلــرارة فيها األربعني. وعلى الرغم من أنه مت إقرار كأس العالم في فصل الشتاء، حيث اجلو رائــق في قطر وبلدان اخلليج، فقد أثيــرت قضية رزنامات البطوالت األوروبية اخملتلفة. شيء من املوضوعية يقتضي االهتمام بأساسات وقائــع كأس العالم. لعل تصريح رئيس الفيافا جياني أنفونتينو كان أجمل جواب على تطرفات «الرجل األبيض» إذ وضع الغرب التاريخي أمام تاريخه وتفاصيله التي كثيرا ما ينساها أو يتناساها.

من الصعب فصل ذلك كله عن العقليــة املهيمنة التي تتحكم اليوم في الغرب والتي ترى في العربي إنســانا مــن درجة ثانوية وصورة جتسد اإلرهاب. جتربة قطر أخرجت النقاش من هذه الدائرة وأدخلته في دائرة أكثر جدارة وقوة، إذ كيف لبلد صغير أن ينظم أكبر تظاهرة عاملية ويوفر لها كل سبل النجاح األكيد؟ هذا هو الرهان العظيم، وقد بــني االفتتاح كم أن هذا ممكن وكم أن التجربة تســتحق كل احملاولة. هنيئًا لقطر بهذا املنجز العظيم الذي سيتسلمه الشعب القطري الحقًا إلعطاء أهمية كبيرة للتجربة اإلنســاني­ة الكبيرة للرفع من الرياضة القطرية والعربيــة، وهنيئا للعالم العربي الــذي أثبت أنه قادر على اخلروج من املواصفات السلبية التي ألصقت به ظلما.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom