Al-Quds Al-Arabi

في املمتنع السردي

منصف الوهايبي

-

■ هــذا مصطلح ســردي جليرالــد برنس يفد علينا، شــأنه شــأن هذه املصطلحات التي تلوح للقارئ أشبه مبا يسـّـمى في الفيزياء «ِتْلوانّية» وهي خاصية في بعض البلورات جتعلها تتكشــف عن ألــوان مختلفة؛ حني ينظر إليها من جهات متباينة. أحاُر في ترجمته وأنــا أقّلبه على أكثر من وجه، فهل هو يعني Dis استئناسا بشتى معاني هذه البادئة أو أداة التصدير.

«املمتنع الســردي» أم «املباين الســردي» أم «اللامتســا­وق السردي» أم «اإلبدال السردي»؟ أو حتى «الالمســرو­د» أو «املفترض السردي»...احلق لم يستقر رأيي على أي منها، وقلت أستأنس برأي أهل االختصاص املشهود لهم؛ فاتصلت بنادية هناوي. وكان ردها مشــكورة أنها بحثت في كتاب ج. برنس باإلنكليزّية «علم السرد: الشكل ووظيفة القصصي» وخلصت إلى أّن املصطلح الذي يقابل املصطلح الفرنسي ليس Re-tellingوإن­ما Disnarrate­d أي إعادة قول ما قيل، وليس سرده أو روايته. وذكرت أن ج. برنس استعمله في أربعة مواضع، منها قوله «لم يعّلق مــّرة واحدة على حقيقة أّنه يقول قّصته» Narrating و»من خالل قوله قّصته، جعل ميشيل عمله أكثر واقعّية». وفي هذه احلال يكون الســارد جزءا من ثالثية (سارد ومســرود ومسرود إليه)؛ ومن ثّمة تنعقد عالقته مباشــرة باألفعال واألوصاف والشخصّيات. فمهّمته النقل وحســب؛ إذ هو يقع خارج هذه الثالث ّية .Telling وأضافت هناوي أ ّننا نع ّبر عن الســارد بالقول: حكى ق ّصته، على حني نع ّبر عن مه ّمة القائل بـ: قال قّصته. والسارد بعكس القائل، هو الذي ينهض بـ»حتبيك» قّصته؛ فاخلطاب من صنعه، وهو جزء منه. وال بّد من أن يتوّخى اإلقناع في ما يسوق من أفعال وأقوال وأوصاف؛ وأن يتوّخــى فيها أن تكون ممكنة ومحتملة وطبيعّية؛ وإّال اّتهم بالكــذب والتخريف. وتقول ناديــة، إّن منّظري الســرد اعترضوا، من هــذا املنظور، على رفض فكرة «موت املؤّلف» ولم يفّرقوا بينه وبني الســارد؛ وكان ســؤالهم: من الذي يتكّلم إذن؟ وتؤّكد أّنها خلصــت في ضوء قراءاتها فــي النقد األنكلو أمريكي، وهــي على دراية به؛ إلــى أّن املنّظرين األمريكيني ومنهــم، ج. برنس وواين بوث وســيلفي باترون وآن بانفيلــد... يحاولون جاهدين مقاربة حالهم بحال املنّظرين الفرنســيّين، ويسعون إلى تأصيل ما استعمله أدباء القرن التاسع عشــر األمريكان، من مفردات، من أجل أن تكون مصطلحات يصنعون منها نظرّياتهم التي ال تخلو في غالبها من متّحل؛ ومنها التي استعملها أدجار أالن بو في نقد رواية مؤلفة من قصص قصيرة موسومة Tellingـب لناتنيال هوثــورن.selat ‪..Twice- told‬ ومع هذا بقي املقابل العربي في نظري، محفوفا بقدر من الغموض، وإن كان ج. برنس شــرحه في النّص الفرنســي الذي اّطلعت عليه، بكثير من الوضــوح؛ وهو يقصد جملة العناصر التي تشــير صراحة في الســرد، إلى ما لم يحدث؛ لكنه ميكن أن يقع أو يكون قد وقع.

وأنا لســت من أهل االختصاص، وإّنما قارئ؛ فأفّضل كّلما تعّلق األمر بهذا النوع من السرد، أن نعود مثل هؤالء الغربيني إلى مصطلحاتنا القدمية مثل تلك التي أثبتها حازم القرطاجني في «منهاج البلغاء وسراج األدباء» على أن نقوم بتطعيمهــا أو جتديدها، من ذلك هذه املصطلحــا­ت التي أدارها في كالمه على «الصورة» وإن لم يستخدم هذا املصطلح: «االختالق اإلمكاني» أي االحتمالي، و«االختالق االمتناعي» أي الذي ميكن تصوره، لكن دون أن ينهض له سند في الواقع، أو في األعيان؛ و«االختالق اإلحالي» أو االستحالي الذي ال سند له إال اخمليال، حيث ال تتقّيد اخمليلة السماعية باخمليلة البصرية، وال يتسّمى الشيء بشبيهه أو بســببه أو الحقه أو مقارنه، وما إلى ذلك من األشياء املعدودة في تصنيف الكالم اجملازي. ولع ّل خير مثال ملا أنا فيه، الن ّص القرآني، فث ّمة صوت سارد يستوقفنا في كل قصصه. وقد يكون من املفيد في دراسته أن ننطلق من ذلك التمييز الدقيق الذي يجريــه املعاصرون بني القصة أو احلكاية من جهة، والقص والســرد من جهة أخرى. فامللفوظ السردي أو القول السردي ينهض برواية قّصة أو مغامرة تنتظمها حبكة، يقوم بها شخوص يتحّركون في فضاء وزمان مخصوصْين. وهم يــؤّدون القّصة في ضوء املمكنات الســردّية، وما يتعّلق منها بالتغييرات الزمنية وإدارة فّن الدخول إلى العالم احملكي، ســواء أقّيدته وجهة نظر داخلية أم لم تقّيده. فليس ثمة ملفوظات سردية دون سرد، أو دون تلفظ ســردي. والســؤال: من هو املتكلم في القصــة أو في احملاورات القرآنية، عندما يكون الكالم مســندا إلى ذوات غير الذات اإللهية؟ وأي وضع يشــغله هذا الصوت؟ فهل اخلطاب خطابه أي بنظمه وتأليفه؟ أم هو نوع من «حكاية القول» بعبارة عبد القاهر اجلرجاني، أم هو «إخبار عن القول» بعبارة مفّسري القرآن. وأقّدر أّن هذين املصطلحني يفيان باملرام، إذا نحن عرفنا كيف نح ّررهما من اخللف ّية الدين ّية أو من أحكام القيمة.

وال مناص من اإلقــرار بأ ّن أ ّي ن ّص قصصي، أكان دينّيــا أم غير دين ّي، هو جمــع وليس فردا، أو هو «محاورات» بني ذوات شــّتى؛ ومــا إلى ذلك ّمما قد يفيدنا في فهم اخلطاب املنقول، و»املمتنع الســردي» الــذي يراوح بني هيئة األسلوب املباشــر وغير املباشر في النّص. واملباشــر قول يتلّفظ به شخص ثالث، فيما غير املباشــر دمج خطــاب هذا الثالث في نظــم اخلطاب الرئيس أي خطاب الســارد. ويفترض في هذا اخلطاب «املمتنــع» املنقول أو املروي أو «اخملبــر عنه» كما أفضل استئناســا باملصطلح القدمي، أّن لــه صوتا يخّصه، ونغمة تخصه، وسجية تخصه.

وبرنس في تعريفــه، يصف عناصر هذا «املمتنع الســردي» من حيث هي تتعّلــق مبا هو افتراض ّي غيــر كامل، أو غير متحقق، أو هــو قابل للتحقق، أو بعبارة أخــرى من قبيل «كان ما ســوف يكون». وهو يوضــح بأمثلة دقيقة، ليس لي أن أمتّثل بها أكثر مما ينبغي؛ ألّني لســت مّطلعا على كّل املدّونة التي يعتمدها. من ذلك كالمه على الوضع االفتراضي للوصف االفتتاحي في بعض القصص، بأثر سالف أو سابق على احلدث، في الوقت الذي ينزلق فيه السرد من الشــرط إلى الداللي «كانت حياتهم ستكون ضربا من فنون العيش... هذه األمور ليســت ســهلة، بل هي على العكس من ذلك». والقائل ها هنا يلمح إلى مستقبل، بالنسبة إلى اللحظة احلاضرة التي هو فيها؛ بل هو ماض لم يتحقق. والسني حرف يدخل على املضارع فيخلصه لالستقبال، فيما سوف أطول زمانا من الســني. وما إليها من أمثلة تشــير إلى ما لم يحدث، لكنه كان من املمكن أن يحدث؛ من خالل اســتحضار أفعال القائل وإمياءاتــ­ه؛ في ضوء الصيغ التي تؤّطر التسلســل النّصي. ومن ثّمة يجد القارئ نفســه إزاء «سيناريوهات» محتملة مثل قوله «ســيكون األمر متروكا لي فقط» مقترنا بوضع شــرطي أو بصيغة االســتفها­م كما في قول القائل «ما الذي مينعني من...؟» وهكذا تظهر اخليارات الســردية التي ّمت تقدميها على أنها مجّرد افتراضات تدّل على عدم حت ّقق االحتماالت الســرد ّية. والسارد يســتدعيها حتى يتم ّكن من إبطالها أو استبعادها؛ لكّنها تظل جزءا من فضاء السرد؛ إّما لتأكيد ترسيم حدود السرد أو لتمويه هذه «احلدود». على حني أّن الســارد يحيل على ما ميكن أن نسّميه «بنية غياب باملطابقة» بينه وبني القائل، مما يتيح له أن يحصر الســلطة في شــخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يترّكز في الشــخصّيات الرئيسية، من أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغوية؛ من خالل األفعال اللغوية الثالثة التي تنشــئ ملفوظا ما. وأولها فعــل القول (ماذا يقول؟) وما يتعلق به من أصوات من شأنها أن حتمل داللة هي محصلة املعنى واملرجعية، أو محتوى افتراضيا كما هو الشأن في هذا «املمتنع السردي».

وثانيهــا القول الفاعل (مــاذا يفعل؟) ومــا يتعلق به اتفاقــا أو مواضعة ًمــن التزام أو مفعولّية. ومن شــأن هذا القول الفاعــل، أن يغّير العالقات بني املتخاطبني.

وثالثها الفعل التأثيــري (لَم الفعل؟) وهو يخرج عن احلّيز اللســاني، إذ يتعلق األمر بالتأثيرات التي تنجم عن امللفوظ في وضع التخاطب؛ فقد تكون متباعــدة في الزمن (اضطرابــات أو تغييرات الحقة على زمــن القول). وفي تراثنا المس الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) املســألة من زاوية الوشيجة التي ال تنفصم، بني امللفوظ والتلفظ؛ لكن في ســياق ديني. يقول: «لكن ملا كان امللفوظ ال يســتقل إال بتلّفظنا واملكتوب ال ينفّك عن كتابه واملتلّو ال يســمع إال بتالوة تال صعب فهم املسالة وعســر إفراز اللفظ الذي هو امللفوظ من اللفظ [الكالم] الذي يعنى به التلفظ [النطق]، فالذهن يعلم الفرق بني هذا وهذا».

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom