Al-Quds Al-Arabi

نوستاجليا وطن

- سهى الصوفي كاتبة من سوريا

■ الــكل يبكــي في احلــرب مبقلتيــه، واملقلة في احلــروب تلبــس روح صاحبهــا، وصاحبهــا فــي احلــروب، يخلــع مقلتيه، ليــرى احلــرب بصولفيج روحــه. أمــا بالنســبة للموســيقا­ر الســوري كنان العظمــة، فــراح يبكــي احلرب فــي ســوريا مبقلتي الكالرينــ­ت التــي لــم تخمــن مــن ثالثة قــرون حني مت اختراعهــا أن تكــون حنجــرة ألصــوات فقــدت حناجرها.

كنــان العظمــة، مســك الكالرينــ­ت وراح يبكــي على مــرآى األحياء، وشــبه األحياء.. على مســامع األمــوات، وشــبه األمــوات.. علــى خطوة مــن حلم مســتحيل، وخطوات من دمار، جترأ أن يحط رحاله في وطن مخترقا كل شــائعات «الطير الشارد ال مير من سماء سوريا إال بإذن».

بعيدا عن سوريا، أطل كنان بهالة املوسيقى على جمهور أتــاه بهالة التوق إلى وطنــه. األوطان أثناء الرحيــل، حتملنــا عناقيدها بوجــع األم وهي تودع أبناءها دون أمل. لكن حني ينبت العنقود، سيعرف كل مــن يــراه أن أوطاننــا حيــة فينــا ولــو بقي من العنقود حبة واحدة. وفي موســيقى كنان العظمة، ســمع اجلمهور أنــني العنقود على مدار اثني عشــر عاما يبكي ســقوط حباته، أطفاله، أحالمه، تاريخه، قالعه، حصونه، شبابه، أرحام نسائه، عزة رجاله، وقائمة الضحايا أطول مما ميكن للورق احتواؤه...

فــي موســيقى كنــان العظمــة، نــاح الكالرينــ­ت على شــعب نــال ســخط األرض بدل نيل شــفقتها، واســتعذب العالــم ذبحــه، بــدل تضميــد جراحه، وتفرقــت صفوفه بدل تكاتفها، وبــات بحكم املعدم مــن الفقــر واحليلــة والرجــاء واحللــم واإلميــان بـ»بكــرا». أمــا األصعب مــن كل تلك األوجــاع، فهو حكــم املوت الذي أطلق عليه، ســواء بقي في أرضه، أو رحــل عنها. لــم يتخل كنــان عن ابتســامته حني كان يحاكــي جمهــوره، كذلك، لم يتمكــن من إخفاء بكاء الكالرينــ­ت حني عزف جلمهوره... فمن قال إن أصحــاب املواجع ال يبكون! ولعــل أحلى ما في تلك الهالــة أو احلالة أو اللقاء، كانت الروايات الصغيرة التــي يخبرنا بها عن املناســبة التي اســتوحى منها مقطوعاته املوســيقي­ة. لم متر رواية دون استحضار اســمها، ولم يخبرنا حكاية مبنأى عــن ذكرها، تلك العتيقة الغارســة جذرها في داخلنا، رغم استهداف أغصانهــا مــرة بالنار، ومــرة بالســالح الكيميائي، ومــرة بالقنابل، ومرات كثيرة بحــرب األغصان مع بعضها، في عز تهاويها وسقوطها وتالشيها لألبد.

موســيقى كنان العظمة لم تبحث عــن قنديل في العتمة، أو خشــبة على مســرح، أو نافذة في جدار، أو محطــة فــي راديو قــدمي، إال ألن لديها مــا تقوله.

أما الذي أرادت أن تقوله، فهو رســالة حب لوطن لم يغير اخلراب موقعه في دواخلنا. وأما ملن أرادت أن تهــدي ما تقوله، فهو لكل صرخة وجع ســقطت في حلظة خروجها، ولشــجرة املشــمش في جســرين، التــي ال يزال ترابها عالقا فــي أصابعه وهي تعزف على الكالرينت نوستاجليا وطن.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom