«بحوث في السيميائيات الثقافية» لتوفيق قريرة
■ صــدر عن دار يس للنشــر فــي تونس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني احلالي كتاب ألستاذ اللسانيات في اجلامعة التونسية توفيق قريرة. يحوي الكتاب الذي ميتد على 296 صفحة قسمني كبيرين: القســم األول منهما مقدمة نظرية تعرف بالسيميائيات، انطالقا من أشهر مفاهيمها وأبرز أعالمهــا، وتخصص النظــر في الســيميائيات الثقافية؛ والقســم الثاني مقاالت كان املؤلف قد نشــرها في صفحات جريدة «القــدس العربي» في عمود يحرره أســبوعيا في الصفحة الثقافية ومدارها الســيميائيات الثقافيــة، وثقها وأعاد تهميشها وربطها باملصادر.
نقرأ في الكتاب أن هناك اجتاهني في توظيف دراســة العالمــات وطرائق إنتاجها فــي ثقافة معينة أحدهما يســيطر عليه النظــر في الكيفية التي توظف بها العالمات اللغوية املكتوبة أساسا علــى أنها أهم العالمات الثقافيــة، وهذا ظهر في الدراســات األدبية ذات الطابع السيميائي بداية
من ستينيات القرن املاضي؛ وينفتح الثاني على املنتج الثقافــي، مبا هو خطاب ســمعي بصري ميكن أن يرى مكتوبا أو مصورا، وميكن أن يسمع مقروءا، أو مغنى معزوفا في مجاالت متعددة من الفنون.
في هذا الســياق نشأت ســيميائيات كثيرة كســيميائيات الصورة، وســيميائيات اللباس، وســيميائيات الطعام، وغيرها من السيميائيات التــي درســت املنتــج الثقافــي اخملصــوص باعتبــاره نظامــا عالميــا مغلقــا علــى ذاتــه، أو متفاعــال مع غيره مــن األنظمة. كان أهــم الســيميائيني في هذا السياق أولئك الذين استطاعوا أن ميزجــوا االجتــاه املنطقــي الــذي تزعمــه شــارل بيرس باالجتــاه اللســاني الذي زرع بذرته دي سوســير؛ لقد كانوا
السنة الرابعة والثالثون العدد 10817 اجلمعة 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 - 1 جمادى األولى 1444 هـ
أكثر الســيميائيني جناحا في فتح األبواب على قراءة عالمات املنتجــات الثقافية اخملتلفة. وفي هذا الســياق ال بد من أن نشيد بأعمال الفرنسي بارت واإليطالــي إيكو، دون أن نقلل من شــأن املدرسة الروســية التي كان ألعالمها مثل يوري ميخائيلوفتــش لومتان الفضل فــي فهم الثقافة على أنها بنية من النظم الرمزية، ومن النصوص الثقافيــة وكان فهما مثمرا، والســيما في إبعاد الثقافة عن دوامة الداللة األحادية. فــي الكتــاب مقــاالت عن األســطورة مبــا هــي عالمة رمزية ميكن أن تتخلل السلوك اليومي، أو تدخل حتى املمارسة العلميــة، وفيهــا حديــث عن اجلســد ثوبا وعــن الثوب وقد دجن، وعن العالمــات الثقافية احملليــة القدميــة واحلديثــة، وحديــث طريــف عــن حيــاة العالمــات الثقافيــة وموتها، وعن مسترســل العالمــات وغيرها مــن املواضيع التي تشــتغل فيها العالمة من غير متييز ثقافي ال فصل فيه بني عالمات اآلن وعالمات ضاربة فــي الزمان. املهم أنــك وأنت تقرأ مقاالت هذا الكتاب الذي يبســط كثيرا مــن املفاهيم الســيميائية، جتدك بصحبة أحد املشــائني الكبار يجول بك األمكنة واألزمنة، فأنت معه من شــاطئ إلى مدينــة عتيقة، أو إلى ســوق للمالبس املســتعملة؛ يدخلــك مرة على صبية يلعبون في زمــان منقطع عن هذا الزمان، وميشــي بك مرة أخرى بني املتسولني.. والرابط الوحيد بني هذه األماكن واألزمنة ليس اشــتغال العالمات، بل هو ما اســتعار له بيرس من بعض الفالسفة األبيقوريني اسم السيميوزيس ومعناه بشكل مبســط فعال أو تأثيرا، ال تسلطه العالمة وحدها على من يســتقرئها، بل تسلطها بتفاعل ثالثي بــني العالمة والغرض منها ومفســرها أو معناها الذي تؤول به.