Al-Quds Al-Arabi

أما آن لهذا االستشراق أْن يترجل؟ عن تغطية اإلعالم الغربي للمونديال في قطر

ندى حطيط ٭

- –

■ الدوحــة - األناضــول: يتجمهــر املئــات من جماهيــر كأس العالم لكرة القــدم في مدينة مشــيرب بقلــب الدوحــة العاصمــة القطريــة للمشــاركة فــي فعاليــات رياضيــة وترفيهيــة وثقافيــة وفنيــة جاذبة. وتقدم مشــيرب قائمة كبيــرة مــن الفعاليــا­ت خــالل مونديــال قطــر املستمر منذ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني حتى 18 ديسمبر/ كانون األول املقبل. وتوفر الفعاليات جتربة شــاملة وتفاعلية للزوار تشمل الرياضة والثقافة والفــن والترفيه والضيافة بهدف منح اجلماهيــر من مختلــف اجلنســيات والثقافات

جتربــة متكاملــة وممتعة. وتعد «مشــيرب قلب الدوحــة» مشــروعا ثقافيا واقتصاديــ­ا مبتكرا إلحياء وسط العاصمة القطرية القدمي بأسلوب ميزج بــني مفاهيم الهندســة املعماريــ­ة القدمية والتطور العمراني احلديث الذي تشــهده البالد. ورصــدت الكاميــرا، اخلميــس، امتالء شــوارع مشــيرب بعــروض ترفيهية شــارك فيهــا زوار قطــر مــن كافــة األجنــاس والدول متوشــحني أعالم وأزياء بالدهم لالحتفال باحلدث الكروي املميز.

وتضم املنطقة «متاحف مشــيرب» املكونة من 4 متاحــف حتتفي بتاريخ قطر العريق أسســت مــن 4 بيــوت تراثيــة أعيــد ترميمهــا وحتويلها ملتاحف ذات مستوى عاملي هي: بيت بن جلمود وبيــت الشــركة وبيــت محمد بن جاســم وبيت الرضوانــي. وبجانــب الفعاليــا­ت الترفيهيــ­ة، تســتضيف مشــيرب «املركز اإلعالمــي للدولة املستضيفة» ويجتمع فيه نحو ألف من منسوبي وســائل اإلعــالم اخملتلفــة القادمــة إلــى قطــر لتغطيــة فعاليات املونديال. وحتتضن مشــيرب «قريــة العنابــي» وتضــم عــددا مــن الفعاليات اُملعدة خصيصًا للجماهيــر، مثل ركن كرة القدم

وامللعــب املصغر واأللعــاب اإللكتروني­ة، بجانب معرض يرصد تاريــخ املنتخب القطري ومراحل وأبــرز إجنازاته خــالل الســنوات املاضية. كما يتاح للجماهير زيارة جناح «كومنيبول ـ شــجرة األحالم» املنظم بواسطة احتاد أمريكا اجلنوبية لكرة القــدم (كومنيبول) بالتعاون مع مشــيرب العقارية.

ويقــدم اجلنــاح توثيقــا لتاريــخ وإجنــازات كرة القدم في القارة الالتينية، ويشــهد تســابقا الفتا من العائالت واألطفال اللتقاط صور تخلد ذكرياتهم مع مجسمات جنوم كرة القدم.

وهكــذا انطلق مونديال ،2022 وبدأ العرس العاملــي الدورّي للعبة األكثر شــعبّية في هذا العالم، علــى أرض قطر هذه املّرة، التي يبــدو للجميع أّنها جنحت - أقّله حســبما شــهدنا في األّيام األولى - لناحيــة اختبار تنظيم بطولة من هذا احلجم والتعقيد واألهمية. وما لبثت أن جاءت نتائج منافسة فرق الســعود ّية وتونــس في مبارياتهمـ­ـا األولى لتمنح اجلمهــور العرب ّي حماسة نادرة جتاه البطولة ذكرتنا بحالة الفرح الفوار الذي انتابه بعد فوز اجلزائر الثمني على أملانيا في كأس العالم .1982

لكن هــذا النجاح وذاك الفرح اللذين أزهرا في جهة الشــرق من العالم ال يبدوان باألمور املستســاغ­ة أو املقبولة في جهة العالم األخرى حيث الغرب، إذ تشن صحف وتلفزيونات ومواقع إخبارّية متنوعة األهواء السياسّية من الغارديان البريطانية إلى القناة اخلامسة الفرنسّية ما يشبه حملة إعالمّية منســقة للتشــكيك بقدرة دولة عربية صغيرة علــى إدارة احلدث املعولم، والتلميح إلى فساد شاب عملية منح شرف التنظيم لقطر، والغمز من نظامها االجتماعي والقانوني وقدرته علــى التعامل مع جمهور متنوع األهواء، مثل جمهور املونديال، ونقد متوضعاتها السياسية (التي هي ليست مع روسيا أو الصني في احلقيقة بقدر ما هي أقرب للغرب) وشرائها لألسلحة (من الغرب)!

ولــم يقف األمر بحــال عند حــدود الدولة التي تســتضيف العالم على مالعبها، بل انتقلت حمى التشــكيك إلى االنتصار الســعودي املستحق في مباراتــه على األرجنتــن­ي، وظهرت روايــات تداولتها مؤسســات إعالمّية مرموقة مثل «نيويورك تاميز»، تربط بني خسارة األرجنتني وارتباط جنمها الشهير ميسي بعقد للترويج لطلب السعودية تنظيم دورة كأس لعالم .2030 وبالطبع فإن مضمون حملة التشــكيك، التي حتملها الشاشــات والصحف الكبرى تلك انتقل تلقائيا إلى نقاشات اجلمهور الغربي، الذي يتابع البطولة، وأصبح كل منجز عربي مدانا حتى قبل حدوثه، إذ ســيتفنن بعض املتفذلكني حتما ويجد ألف سبب وسبب إللقاء الظالل على فوز مقبل للمغرب أو تونس مثال!

حكاية قلوب «مليانة»

لســت في معرض الّدفاع عن قطر أو الســعودّية، وهما دولتان متتلكان ترســانات إعالمية مؤهلة وقــادرة على تلــك املهمة، لكــن املراقب احملايد ســيجد حتمًا أن توقيت املآخذ الغربّية على قطر مريب في أفضل التقوميات. فاالتهامات التي توجه إليها ال تتعلق بأشــياء مبتدعــة بقدر ما هي أوضاع تاريخّية ّمت حتســينها عبر إجــراءات متتابعة (مثًال أوضاع ســكن العّمال األجانب، التي لم تكن أســوأ من معيشــة مئات آالف املشردين في حواضر الغــرب مــن باريس ولندن إلــى نيويورك ولــوس أجنليــس)، أو هي في إطار ســلوك سياســي ال هو باجلديد وال باملســتهج­ن (غرب ّي ًا) ولم مينع أي دولة غربية من التربح وراء املشــاريع الهائلة، التــي وفرتها نهضة قطر في الســنوات األخيرة وبرامجها التســلحّية، ولم حتظر على أّي من مواطنيها العمل في قطر واملتاجرة معها، رغم اختــالف البيئة القانونية واالجتماعي­ة عن تلك املوجودة في الغرب.

وفوق ذلك كّله فإن (التموضعات) السياســّية التي تؤخذ على قطر، هي بالصدفــة ذات التموضعات (املتحالفــ­ة مع الغرب) التي جتــد فيها معظم الدول العربّية من مصر إلى املغــرب، ومن الكويت إلى عمان، مرورًا باألردن واإلمارات والســعودي­ة والبحرين، وهي ذاتها منــذ نالت معظم هذه الدول استقاللها خالل القرن املاضي. فلم قطر حتديدًا ولم اآلن؟ !

كما أن الذين تابعوا مباراة الســعودية مع األرجنتني متفقون على أن أداء الفريق األخضر كان مذهال وبطوليا، ولم يأت فوزه اعتباطيا أو نتيجة خبطة حظ، بل بعد كفاح مرير في مواجهة فريق لم يخســر أ ّي ًا من مبارياته الثالثني األخيرة.

ومن املعروف أن الفرق الكروية السعودية عموما من أفضل الفرق في قارة آســيا والعالم العربي، وهي كثيرا ما تنافس على املراكز األولى، ولذلك فإن االنتصار على األرجنتني، وإن كان مستبعدًا إال أّنه لم يكن مستحيًال أيضًا.

فكيف ميكننا إذن تفسير هذه املواقف السلبية؟ وهل ثمة من موقف ثقافي غرب ّي مس ّبق يفسر إذا هذا التشكيك امللتصق حكما بكل ما هو عربي - شرقي؟

عن استشراق ال ميوت!

عندمــا كتب الراحل إدوارد ســعيد عن االستشــرا­ق، كشــف عن جذور تاريخية لتلك النظرة املتخيلة عن الشــرق في اخمليلــة الغربية، وأظهر لكل ذي عقل كيف أن تلك النظــرة متثل نقيضا لكل ما يريد الغرب أن يصدقه عن نفسه، وأن عالقتها باحلقيقة عابرة ومجتزأة في أفضل األحوال.

لكن أن يتشــرب روائي مثل جوزيف كونراد، عاش قبل أكثر من مئة عام استشراق الغرب البغيض هذا شــيء، وأن يستمر هذا االستشراق متحكما بثقافة النخب الغرب ّية (وبالنتيجة الشعوب أيض ًا) إلى اليوم، بعد كل التق ّدم الذي خطته البشرية فهذا شيء آخر متاما!

فليس مقبوال اليوم بعد أن صغرت املســافات بني املدن، وســهل السفر، وانتشــرت املعــارف عبر االنترنــت، وتعملــق البحث العلمي أن يســتمر (اإلعالميون) الغربيون بالتعامل مع كل ما هو شــرقي مبسطرة االستخفاف والتشكيك والفوقّية. نعم، يوجد فساد في العالم العربي، لكنه ليس مختلفًا عن فســاد قد يكون أكبر في فرنســا وبريطانيا والواليات املتحدة، ومعظم دول العالم مرتبط أساســا بطبيعة عمل املؤسســات الرأســمال­ية املعوملة، التي مركزهــا الغرب أصال. وإذا كانت قطر قد أنفقــت املليارات ألجل البناء واســتقطاب بطولة عاملية ذات تأثيرات إيجابية على اإلمارة واإلقليم، فإن الغرب ينفق أمواال أكبر بكثير على الهدم واحلروب وتدمير البيئة.

وهنــاك ثقافــة اجتماعية محافظة نســبيا في اجملتمع القطــري مغايرة بالنســبة للمعايير الليبرالية الغربية، لكنها ال تختلف كثيرا عن مجتمعات مســلمة في مجتمعات أخرى، متتد من أندونيســي­ا حتى شــواطىء جنوب األطلســي، وتتوازى مع مجتمعــات أخرى ال تتوافق قيمهــا بالضرورة مع الغرب، مثل الصني وروسيا والهند.

وال ينبغي إلعالميــن­ي من دول حتّرم مجّرد النقاش في مســائل تاريخّية وتســجن صحافيني، مثل جوليان أساجن أن يحاضروا في الشعوب األخرى بشأن احلق في التعبير.

فضاء التالقي ومساحة كسر اجلدران املتخيلة

لكرة القدم، اللعبة الفاتنة، قدرة هائلة على فرض إيقاعاتها على اجلمهور العاملي بأكثر مــا ميكن لألفكار الدينية والسياســي­ة والثقافية أن تفعل. لقد أصبحت بطوالت مونديالها منذ أولها في 1934 وكأنها كرنفال بشــري عابر لــكل جغرافيا وثقافة، فضاء هائل للتالقي رغــم اختالف املنابت واألصول، ومســاحة للتنافس املتحّضر الســلمّي الذي ال يتحقق إال بكســر اجلدران املتخيلة عن اآلخر.

مونديــال قطر ال يخرج عن هــذا الّدور، بل هو فرصة أخرى اســتثنائّية للشــعوب بأن تتعارف وجها لوجه في منطقة جديدة خارج تقليد املونديال املتنقــل بني أوروبــا وأمريكا الالتينيــ­ة، وتظاهرة اقتصاديــة واجتماعية وثقافية ال ميكن أن ينتج عنها إال كل إيجابّي للجميع ال للدولة املنظمة حصرًا.

الشاذ الوحيد في هذه قلب الصورة اجلميلة كما يبدو هو استشراق بعض اإلعالم الغربي الذي ال يبرأ. فليترجل هؤالء املنافقون، وليدعونا نســتمتع بأجواء لعبتنا الساحرة ّبال خطاباتهم األخالقّية املثقوبة.

لســنا يوتوبيــا، لكنهــم ليســوا بيوتوبيــا كذلك كــي يعيبــوا علينا (اليوتوبيتن­ــا). وإلى أن يعمل كل منا على حتســني الظــروف االجتماعية واالقتصادي­ة والسياسية في جهته من العالم باجتاه اليوتوبيا، هال تقابلنا مؤقتا في املونديال ليصافحوا بياض أرواحنــا عن قرب، فنحن العرب قوم مضيافون وال نأكل حلوم البشر، وال نريد فرض هيمنتنا على أحد.

٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom