Al-Quds Al-Arabi

اجتماعات املناخ الفاشلة... أي عالم نريد أن نعيش فيه؟

- لطفي

التوتر بني االقتصاد املعولم وشــعور االنعزالية القومية املتنامي في السياســة الدوليــة، ميثــل خطــرا جيوبوليتيك­يا عميقا، تزيد مــن آثاره أزمــة املناخ، وما يســتتبعها مــن تنافــس على املــوارد. وحني تهدد أزمات االســتقرا­ر االقتصادي والسياســي مســتقبل التنمية البشرية من حيث عوملة اآلثار الســلبية ألية أزمة مالية، وتخطيها جملالها الوطني واإلقليمي، فإّن ذلك يعّزز بشكل واضح فكرة االنغالق على الهوية، وصعود السياسات القومية املتطرفة، وهذا ما بدا يتشــكل كواقعية سياسية جديدة في أكثر من بلد أوروبي وحتى في أمريكا، وهي أرضية خصبة بالنســبة للدمياغوجي­ني، لتأليب غضب اجلماهير على املؤسسات القائمة وما يرافقها من انهيار املركز، وشــحذهم ضــد الفئات الضعيفة كاملهاجريـ­ـن واألقليات. ومثل هذه الظواهر الســلبية تؤدي في مجملها إلى تقويض األشــكال الدميقراطي­ة والتعايش السلمي. في األثناء، يكتفون باجتماعات بروتوكولية فيما يخص أخطار املناخ ومــا ميثله من تهديــد وجودي حقيقــي، وتطغى عبادة املصالح على محاولة حتييد كوارث داهمة.

لــم تترك أزمة التغيــر املناخي جزءا في العالــم إال وطالته، والتقارير الصادرة عن منتدى االقتصاد الدولي، أشارت في أكثر من مناســبة إلى أن التوترات اجليوسياسي­ة واجليواقتص­ادية تــزداد بني القوى العظمــى. وأنها متثل اخملاطــر العاملية األكثر إحلاحا في الوقت احلالي، وإلى أن العالم يتطور بشــكل يتجه نحو التباعــد بعد فترة مــن العوملة أدت إلى تغييــر عميق في االقتصاد السياســي العاملي. وإن إعادة تشكيل عالقات البلدان املندمجــة هو أمــر محفوف باخملاطــر احملتملــة، خصوصا أن العالقات التجارية واالســتثم­ارية بني العديــد من قوى العالم، كانت صعبة للغاية في السنوات األربع األخيرة.

وتشير األمم املتحدة إلى أن الكوارث املتصلة بحاالت املناخ، كانت دائما جزءا من نظام كوكبنا األرضي، غير أن هذه الكوارث باتت أكثر تواترا وشــدة باملوازاة مع احتــرار العالم. ولم تبق أي قارة في منأى عــن هذه الكوارث، حيث صارت موجات احلر الشــديد واجلفاف واألعاصير بجميع أنواعها تنشــر الدمار في جميع أنحاء العالم. ويصنف اليوم %90 من الكوارث باعتبارها كوارث ذات صلة بالطقس واملناخ، وهي تكلف االقتصاد العاملي حوالي 520 مليار دوالر كل عــام، بينما ينحدر من جراء ذلك 26 مليون شــخص في هوة الفقــر. وبحصيلة كهــذه، أصبح تغير املناخ يعّد مــن التهديدات الكبرى للســالم واألمــن الدوليني، فبســبب آثاره يحتدم التنافس على املــوارد، األمر الذي يؤجج التوترات االجتماعية واالقتصادي­ة. ويــؤدي بصورة متزايدة إلى النزوح اجلماعي للســكان، وعندما يســتحيل املناخ عامال مضاِعفا للمخاطر، فهو ينضاف إلــى التحديات القائمة بالفعل، ويزيدها اســتفحاال. تلك هي استتباعات العوملة التي كانت على الدوام حلظة متداخلة أشــّد التداخل، ومليئــة بكّل االحتماالت املقلقة بجوانبها السياسية واالقتصادي­ة واحلضارية والعلمية والثقافية والبيئيــة والفكرية. وحصادها يزداد انكشــافا كلما تعقدت مســارات العالقــات الدولية، على نحو ما نشــهده من إمعــان في تباين خريطة العالــم اجليوبوليت­كية واالقتصادي­ة. حيث يزداد انقســام العالم إلى دول غنية متعن في اإلثراء على حساب دول فقيرة تزداد فقرا. والعوملة حالة محرجة في جانبها العلمي أيضا، إذا كانت تعني املزيد من التطورات في الهندســة الوراثية وهندســة اجلينات، التي تســتفز القيم واألخالقيا­ت اإلنســاني­ة الطبيعية. وهــي مقلقة إذا كانــت تتجه نحو صدام احلضارات مثلما نّظر كثيرون، ما من شأنه أن يؤّدي إلى اندالع حروب أكثر عنفا ودموية من سابقاتها، بالنظر إلى حجم التسلح وأمناطه، وخطورة األسلحة الكيماوية واجلرثومية والنووية. وهي مقلقة إذا كانت تدفع في اتجاه املزيد من اغتراب اإلنســان، وعدم قدرته على التح ّكم في التح ّوالت املتســارع­ة، وعجزه عن مسايرة املستجدات احلياتية املتالحقة، وهي مزعجة إذا لم يعد للساحة العاملية سمة التوازن الدولي، الذي يضمن عدم استفراد دولة معينة بالشأن العاملي، كما هو احلال منذ عقود، حتت غطاء ما يسمى في املنابر السياسية الغربية بالنظام القائم على قواعد. تقارير بحثية جادة أشــارت منذ ســنوات إلى أن االقتصادات الكبرى تقع على عاتقها مســؤولية ثقيلة، ودور رئيسي للحفاظ علــى الوجهة الصحيحــة لتحقيق األهــداف املناخية، وضبط مستويات االحترار العاملي. إذ أن الدول الصناعية الكبرى تسهم مبا يقرب من %75 من االنبعاثات العاملية. وهي حتديدا مجموعة العشرين التي تضم كبرى االقتصادات العاملية. ولم تنجح حتى اآلن في االلتزام بالتعهدات الســابقة، أو طرح تعهدات جديدة، من شــأنها خفض االنبعاثات، أصبحت بذلــك نتائج التقاعس املناخي أكثر وضوحا. واالنقالب اإليكولوجي قد يصل ذروته إن لم تتخذ إجراءات صارمة للحد من آثــار هذه األزمة الوجودية التي يتجاهلها الكثير من الدول، وتســبق مصاحلها االقتصادية بطريقة جشــعة، جتعلها تتعهد بخفض مسببات اخلطر املناخي خالل القمم املتتالية، لكنها ال تفي بأي من تعهداتها بشكل عملي. ومن الطبيعي أن تفشــل قمة شــرم الشــيخ، فهي ليست القمة األولى للمناخ التي ترافقها مشــكلة عدم الوفاء بااللتزاما­ت رغم بالغة اخلطابات واإلنشائيا­ت املطولة، أي عالم نريد أن نعيش فيه؟ تساؤل وجودي يطرحه تشومسكي، الذي حذر من السباق إلى حافة الكارثــة املرعبة التي يجري إليهــا العالم، وما يتهدد البشــر من خطرين وجوديني وشــيكني، أولهما تزايد تهديدات احلرب النوويــة، وثانيهما تزايد مخاطــر االحتباس احلراري الذي سيتســبب بكوارث بيئية على مستوى الكوكب. وتنضاف إليهما األزمة العامة في األنظمة الدميقراطي­ة، من جهة التغاضي عن نزعات الدميقراطي­ة داخل االنتخابات واملؤسسات القومية، ومــا أقرت بــه النيوليبرا­لية من أســس وقواعــد ربحية ذات أولوية، حيث يتم مترير معظم ما يتعلق بالشــؤون املالية دون اللجوء إلى الشــعب أو من ميثله في البرملــان، واألمور تقتصر على مجموعة مــن التكنوقراط الذين ال يتم انتخابهم، باإلضافة إلى أن النسخة اجلديدة من الليبرالية املهووسة بالربح، جعلت من إجراء االنتخابات بشكل حر أمرا مستعصيا، نتيجة حمالت الدعاية والبروباغا­ندا التي تتدخل فيها الشــركات الكبرى، من خالل دعم املرشحني الذين يحققون مصاحلها. املسألة باختصار تعني تغليب الصــوت االقتصادي ملنفعــة النيوليبرا­لية، على حساب العودة إلى املصطلحات اإلنسانية املعنية باالحتياجا­ت البشرية والعدالة االجتماعية. لوك كامب من جامعة كامبريدج، اعتبر هو اآلخر أننا نعيش اليوم في عالم مليء باخملاطر احملدقة بنا، واألزمات االقتصادية واألمراض املعدية واألوبئة اجلديدة، ورمبا حروب نووية ســيكون لها مع التغيــرات املناخية تأثير خطير على ســاكني هذا الكوكب. وليس مــن املبالغة القول إن مصير التجربة البشــرية يتوقف على اإلجابة على مثل السؤال الوجودي السابق، خاصة في ظل تفاقم األزمات وغياب احللول. فقد متــت خيانتنا فعال من النظم السياســية التــي تتحكم بها النيوليبرا­ليــة، ويديرها األغنياء. وال خيار لنا ســوى اخلروج مــن «الطاعون النيوليبرا­لي» للتعامل مــع األخطار املقبلة التي تلوح فــي األفق. ما زلنا بعيدين عن نظام عاملي إنســاني يكون فيه مســتقبل البشرية قابال للبقاء. وما يســود اآلن هو النظام االقتصادي واالجتماعي العاملي اخملتل، الذي سلمنا مصيرنا فيه لالستبداد اخلاص بشــركات األدوية وكذلك اجملامع الصناعية العســكرية، التي ال تخضع للمســاءلة. ومبعنى أشمل، السواد األعظم من البشــرية التي جتاوزت 8 مليارات إنســان، ال تزال رهينة املصلحــة النفعية للنيوليبرا­لية املتوحشــة التي تتحكم باقتصاد السوق وفلسفة العرض والطلب على مستوى العالم.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom