Al-Quds Al-Arabi

في احلروب الكروية... ننسى كأننا لم نكن!

- جواد *

تطغى أخبــار ألعــاب كأس العالــم لكــرة القــدم املقامة في إمارة قطر على سائر األخبار احمللية والدولية؛ ونعيش، نحن الناس، كما في كل دورة مشــابهة، تداعيات مشــهدية غريبة، تعيدنا إلى حيرة الفيلسوف وسؤاله األول حيال ذاك السحر املكنون في لعبة تكتنز كرتها جميع اجملازات املتناقضة، وتتيح للمتابعــن­ي عوالم من التأويالت البســيطة واملركبة. ليســت اللعبة مــا يعنيني في هــذه العجالة، بل هو النســيان الذي نســكنه بفرح عظيم ونحن في حضرتها، ونحلق على أهدابه نحو البعيد البعيد، فنصير أبطاال غاضبني نلهث وراء هدف ال وراء سراب وطني، ونقاتل ببسالة أعداءنا ونسحقهم من دون أن نصير إرهابيني.

النسيان دائما نعمة إال في فلسطني، فهو إما أمنية مستحيلة أو لعنة، هكذا فكرت صباح يوم األربعاء الفائت عندما غادرت بيتــي، الكائن فــي حي بيت حنينا شــمالي مدينــة القدس، قاصدا مدينة رام الله. كانت صافرات الســيارات في الشارع عاليــة ومتواصلة وكأنها عزيف اجلان. زحفت بني ســيارتني ولــم نتحرك. فتحت الراديــو فكانت مذيعة إحــدى القنوات اإلســرائي­لية تنقل بلهجة حربية أخبارا عــن تنفيذ عمليتني تفجيريتني في محطتني للباصات فــي القدس الغربية، وتفيد كذلك عن سقوط قتلى وجرحى.

كان طابورنا يتقدم ببطء ســلحفاة، بينمــا ابتلعت زرقة األفق وراءنــا آخره. أجريت بضعة اتصــاالت مع زمالء كنت أعلم أنهم في الطريق إلــى أعمالهم ففهمت أنهم عالقون مثلي، وأن اجليش والشــرطة أغلقــوا معظم الطرقات الرئيســية في القدس ويقومــون بتفتيش جميع املركبــات في احلواجز العسكرية املؤدية إلى رام الله وغيرها.

لــم امتلك خيارا ســوى االنتظار. كنت أطفــئ الراديو من حــني إلى آخر كيال أســمع تعليقــات املذيعني اإلســرائي­ليني وضيوفهــم وحتريضهم علــى جميع الفلســطين­يني؛ فكل من حتدث منهم وعنهم هدد وتوعــد، وبعضهم أكدوا أن احلكومة اجلديدة ستستعيد سياسة االغتياالت الفردية، واالجتياحا­ت العسكرية ومالحقة «اخملربني» وفرض منع التجوال وسياسة اإلغالقات وغيرها من الوســائل العقابية اجملربة واملستحدثة بحــق املواطنني الفلســطين­يني. طال وقوفنا ولــم يكن أمامنا مخرج بديل. اتصل بي صديق وأخبرني أنه عالق منذ الساعة السابعة والنصف صباحا في منطقة «بسجات زئيف» القريبة من احملكمة العسكرية في «عوفر»، ثم استطرد قائال: «دعنا من هذا القرف ولنتكلم عن انتصار الســعودية»، وأضاف مازحا إنه ســمع مسؤوال سعوديا يعلن بعد هزمية األرجنتني أن فتح االندلس أصبح مسألة وقت وحسب، ثم تلى علي مجموعة من النــكات والنهفات التي تفتقت عنهــا قريحة الناس في أعقاب تلك اللعبة، ومنها خطبة لشــيخ يجزم أن اللعبة وحدت جميع مســلمي العالم وانتصار الفريق الســعودي ما هو إال انتصار املؤمنني فــي مشــارق األرض ومغاربها على جميــع الكفار. قالها وحاولنا أن نســتحضر مشــاعر مدرب منتخب الفريق الســعودي الكافر هيرفي رينار الفرنســي اجلنسية واملنبت. لست من مدمني مشــاهدة لعبة كرة القدم؛ وللحقيقة تعمدت أن أفطم من عشــقي لها وتعلقي املرضي بتشجيع فريق معني، وبدأت اتبع سياســة االنحيــاز للفريق الذي يــؤدي عرضا أفضل.. لم يكن ذلك ســهال، لكنني صممت على أن أتخلص من ذلك الدنف، بعد أن أحسســت أن مســتويات التعصب داخل مجتمعاتنا العربية وصلت حدودا خطيرة، وانقسامات نووية كان أشــدها الصراع بني قبيلتي «البارشــا والريال». حاولت أن أكون قدوة أمام أبنائي وأقاربي، ولكنني اكتشــفت أنني لم أشف من ذلك السحر الكروي بشكل تام؛ فمباريات املنتخبات الدولية احتفظت بعناصر تشــويقها املنيعــة أمام محاوالت الفطام أو االبتعاد عن مشاهدتها، السيما خالل مباريات كأس العالم، وكأنها اســتبدال ممســرح حلرب عاملية متخيلة. كنت وحدي عندما شــاهدت لعبة املنتخب السعودي. لم أعرف من قبل أية تفاصيل ذات قيمة عن العبيه أو تاريخه وإجنازاتهم؛ بينما كانت األسماء األرجنتيني­ة جنوما حتيط بقمرها الواحد والوحيد ليو ميسي. هيأت نفسي لتشجيع األرجنتني من دون أن أبحث عن أسباب عقالنية أو موضوعية لذلك، فعلى ما يبدو كان شــيء ما بداخلــي مقتنعا باختياري مــن باب اإلنصاف واالستحقاق. بدأت اللعبة وكانت سجاال بني قوتني متكافئتني والســعودي­ون يحاربون كأبطال املالحم واملعلقات. لم انتبه متى وملاذا خالل مجريــات اللعبة بدأت أنحاز لصالح املنتخب السعودي، ولم أجد لغاية اليوم سببا واضحا جعلني مع نهاية املبارة أداري الدمــع املتدحرج من عيني ككرات من فرح حذر. كل األجوبة على هذه األحجية ممكنة، وكلها، في الوقت ذاته، غير كافية أو ملتبســة. كانت لألرجنتني مكانة وردية باســمة في مخيلتي، فلم أفتــش على ثأري في امللعب منها؛ واالنتصار عليها لم يعد، في قاموس احلماســات الوطنية الشــعبوية، هزمية لرمــز إمبريالي تقليــدي أو رأســمالي خنازيري، كما لو هزم منتخب فلســطني منتخب بريطانيــا مثال. فلماذا إذن فرحت لهذا االنتصار، وأنا، مثل عرب وفقراء كثيرين، برازيلي الهوى؟

كانــت أخبار التفجيريــ­ن تتوالى تباعــا بتقارير مكرورة ومســتفزة، ومصحوبة بخبر عن قيام شبان من مدينة جنني باختطاف جثمان شــاب عربي من سكان مدينة دالية الكرمل، كان قد أصيب بحادث سير بالقرب من مدينة جنني، فنقل على أثره للمستشــفى حيث فارق احلياة هناك، فاختطفه الشبان، حســبما جاء في األخبــار، بحجة أن إســرائيل تتحفظ على جثامني عشرات الشهداء الفلسطينين­ي بينهم حوالي العشرين جثمانا من منطقة جنني. بدأت السيارات تتقدم ببطء واألخبار تنقل نداءات قيادات األحزاب واحلركات العربية في إسرائيل املوجهــة للجهــة التي تتحفظ علــى جثمان الشــاب بإعادة اجلثمان كي يتمكن أهله من دفنه، حسب األصول. بعد أكثر من ساعتني وصلت إلى اجتماعي في رام الله. الحظت أن أحاديث احلضور، ومعظمهم كانوا من األسرى احملررين، كانت تتناول أخبار الطرقات وجلطاتهــا املرورية من باب التفاكه الروتيني على املشــهد، ثم كان حلادث التفجيرين قســط في حديثهم، ففهمت منهم أن األمر كان متوقعا بعد التمادي الذي مارســته قطعان املســتوطن­ني في االعتــداء­ات الدمويــة اليومية على املواطنني في القدس وجميع األراضي احملتلة وعلى ممتلكاتهم، وبدعم مــن جيش االحتالل املباشــر، وكان متوقعا كذلك بعد انسداد جميع أفاق السياسة وطاقات األمل، وأن املقبل سيكون أخطر، هكذا توقــع وأجمع معظم املتحدثــن­ي. وأجمعوا كذلك على أن عملية اختطاف جثمان الشــاب العربــي تيران فرو، وإن لفتت أنظار العالم إلى جرمية احتجاز إســرائيل جلثامني الفلســطين­يني، كانت عمليــة خاطئة منذ البدايــة وارجتالية بشكل مسيء وغير محسوبة بشكل سليم. كاد النقاش في هذه القضية يتشعب حتى تدخل أحدهم وقال حاسما: «انسونا يا شباب من وجع الراس، بكفينا اللي جاي، خلونا نحكي شوي عن انتصار املنتخب السعودي».

فجأة تغيرت أجواء القعدة واكتســى الكالم بألوان زاهية، مثل لون الفرح والرضا واحترام الذات. بعضهم اعترف بانهم من مشــجعي األرجنتني التاريخيني، ويعتبرون ميسي بطلهم الفريد، لكنهم شــعروا بطمأنينة بعد انتهــاء اللعبة من دون أن يتخلوا عــن رغبتهم في انتصار املنتخــب االرجنتيني في اللعبــة املقبلة. حتدثوا وكأنهم خاضــوا حربا حقيقية أعادت لهم بعضا من كرامة ســليبة، وحتدثوا كأنهم كانوا مسافرين في دهاليــز الزمن، حيث صارت أحالمهم نقوشــا على وطن. جميعهــم يعرفون أنها مجــرد لعبة بني فريقــني، لكنهم أكدوا أيضــا انها تثبــت ما آمن بــه املناضلون بأن الهزائم ليســت قدرك إذا امتلكت فريقا مســتعدا للنزال. كنت أسمعهم فرحني بعد هزميــة األرجنتيني­ــني، وأدرك ملاذا تدحــرج دمعي بعد انتهــاء املباراة. فلســاعتني فضيتني في هــذا الزمن الرديء، صار امللعب مســرحا واقعيا تقفز فيه لهفة احملاصرين فتصير ســحابات هائمة؛ ولســاعتني، من وقت الوجع، لم نكن مجرد متفرجني على صراع األقدام وانسكاب العرق من األجساد، بل كنا كأبناء الهزائم جوعى لقطعة شمس خريفية وحلم خفيف كنرجسة نركض وراءه فنركله ونضحك، ونركض وراءه، مرة أخرى فنركله مرة وأخرى ونستريح. لساعتني من عمر الرمل عشنا في عالم النسيان الكروي، فلم نكن واهمني وال واقعيني، وال العبــني وال متفرجني، ولم نكن منتصرين وال مهزومني؛ لقد كنا مجرد منسيني وناســني. لقد بكيت، اسألوا دمعي، وأنا في عالم النسيان، رمبا من فرح على نصر لم يكن، أو رمبا من وجع على هزمية لم تكن؛ فمن قال إن النســيان في فلسطني ال يكون أحيانا نعمة؟

يعرف الفلسطينيو­ن أنها مجرد لعبة بني فريقني، لكنهم أكدوا أيضا أنها تثبت ما آمن به املناضلون بأن الهزائم ليست قدرك إذا امتلكت فريقا مستعدا للنزال

*كاتب فلسطيني

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom