Al-Quds Al-Arabi

اخلليج اجلديد... كأس العالم وأسئلة املستقبل

- سامح

شــهد موســم الغوص علــى اللؤلؤ ســنة 1925 خــروج مئات الســفن من املوانــئ الصغيرة علــى اخلليج العربي فــي البحرين والكويت وقطر واإلحســاء وإمارات الســاحل املتصالح، وفي ليلة هادئة بدأت العاصفة املروعة، التي قدمت مليــاه اخلليج املاحلة اآلالف من األجســاد املرهقــة والغضة، وتذهب التقديرات إلى أن خمســة آالف غواص فقدوا حياتهم في احلدث التراجيدي، الذي شــهدته مياه اخلليج، وســماه

سكانها «سنة الطبعة»، أي الغرق في لهجتهم احمللية، وكان له أثر كبير في صياغة تاريخ املنطقة ألثره السكاني واالقتصادي العميق.

بعد ذلك بأســابيع وفي العدد األخير من مجلة «املقتطف» لسنة 1925 اســتعرضت اجمللة الصادرة في القاهرة موضوعا عن دروز حوران، ومقاالت أخرى عــن اجلمهورية في إيران، واإلســالم في جنوب افريقيا، وكتب مصطفى صادق الرافعي قصــة «عاصفة القدر» عن قصة للحب بــني ابن العمدة العائد لقريتــه وفتــاة ريفيــة جميلة وأميــة، ولم يكن ثمة شــيء بخصوص الكارثة التي وقعــت في اخلليج، ال في املقتطف وال غيرها من اجملالت العربية في ذلك الزمن.

هذه األرض الغافية على ساحل لم تكن أكثر من مكان وجده البرتغاليو­ن، ومن بعدهم اإلنكليز استراتيجيا لتأمني مالحتهم من الهند إلى أوروبا، وخالفا للصراعات الساخنة حول طريق احلــج واليمن املزدحمــة باإلمارات واملشــايخ، فإن اجلزيرة العربيــة لم تكن تدخل في احلســابات الدوليــة، اإليرانيون الذين أخذوا يسوقون لفارســية اخلليج بعد ذلك، لم يكونوا مهتمني بالسيطرة على املنطقة ملضايقة العثمانيني على مقربة من األرض املقدسة في مكة واملدينة، ولم يجد إبراهيم باشا في حملته على جند مبررا للبقاء، فأرسل للقاهرة شكوى من عدم قدرة الســكان احملليني على دفع أيــة ضريبة أو جزية من أجل إعاشــة جنوده. بعد ظهور النفط فــي الثالثينيا­ت، وتصاعد األهميــة االســترات­يجية للمنطقة، تنبه العالــم إلى اخلليج، والقوى املتاخمة للمنطقة، فاململكة التي أسسها عبد العزيز آل سعود لتفرض أول سلطة شــاملة على معظم أراضي اجلزيرة العربية، وأصبحت أكبر من أن يتم جتاهلها، والصعود املستمر ألسعار النفط، وتراكم الثروة، جعال إيران والعرب يكتشفان اخلليج وكأنه هبط من السماء، فإيران في اخلمسينيات تعلن البحرين جزءا من أراضيها، واألمر نفسه بالنسبة للعراق مع الكويت ســنة ،1961 وفي تلك احلقبة أخــذت مصر الناصرية حتاول أن تضع اخلليج في مدار مشــروعها القومي. الســكان والثروة ميثــالن عقدة اخلليــج، أما األرصــدة والصناديق السيادية فكانت األمر الواضح الذي ميكن تتبعه، وفي املقابل، كان الســكان ميثلون اللغز الكبير في اخلليج، وبني تســارع البنية التحتية ومظاهرها الواضحــة، والوقت األطول الذي يحتاجه العامل الســكاني، كانت تبدو الصورة غير متوازنة بصــورة أغرت بوصف مدن امللح املتعجل كما يظهر حني اعتبر احلواضــر اخلليجية مجــرد فقاعات عابــرة. حتى منتصف التســعيني­ات لم تكن اجلامعات اخلليجية تستطيع املنافسة واحلضور، وبقيــت دول اخلليج تعتمد سياســات االبتعاث املكلفة، وأمام واقع ســكاني يجعل أربع من أصل ســت دول، تعاني من تواضع نسبة مواطنيها إلى الوافدين، فإن تأسيس البنية التحتية اإلنســاني­ة مبعنى اجلامعات واملراكز الثقافية واألندية الرياضية لم يكن واردا بوصفه القرار االســتثما­ري الناجح، إال أن تغيرا في الرؤيــة بدأته قطر واإلمارات (األكثر فــي املعانــاة ســكانيا) أدى إلى فورة ســريعة فــي حضور مؤسسات التعليم واســتيعاب الشــباب حتى الوصول إلى واقع يخبرنا بوضــوح، أنه بني اثنتي عشــرة جامعة عربية أتت بني اخلمســمئة األفضل حسب تصنيف «كيو إس»، فقط، اجلامعتني األمريكيتن­ي في القاهرة وبيروت تقعان خارج دول اخلليج العربي. يدرك اخلليجيون قبل غيرهم أن عصر النفط ســيؤول إلى النهاية في مرحلة غير بعيــدة، ال يحتاجون ملن يذكرهم بذلك، فما الذي سيتبقى بعد النفط؟ املوقع بني الشرق والغرب وعلى أكثر من ناصية وعقــدة تبادل عاملي، وال ميكن التنافس على هــذه التجارة العاملية من غير بنية حتتية ثقيلة ومنافسة، وسيبقى السؤال السكاني ملحا وال ميكن أن يحسم

من غير التسلح النوعي والتكنولوج­يا.

التدشــني لكأس العالم في قطر وبعد فشل امللفات العربية السابقة، ووجود أكثر من دول عربية ال متلك احلدود الدنيا من املرافق الرياضية املناسبة، ومع تقدمي جيل جديد من الشباب اخلليجي غير املثقــل باأليديولو­جيا ويعيش بصورة واقعية، فإن انكشاف القفزة التي حتققت على املستوى السكاني يشكل صدمة للعالــم. األوروبيون الذين يظهرون غير معتادين على تقبل التباين الثقافي ويعيشــون حالــة املركزية املفرطة التي ترتبط بقيمهم وأفكارهم، وجدوا في قطر إشــكالية تواجههم فأخذت اتهامات الرشــوة والعنصرية تسبقهم إلى هناك، مع محاوالت مستمرة لتشــويه النجاح الواضح لقطر في عملية التنظيم. حتتاج قطر إلــى كأس العالم لتفرض وجودها على عقــدة املواصالت العاملية، فهي بدأت في اســتثمارا­ت املوانئ وحلقتها اإلمارات العربية، التي كانت بدأت في البنية التحتية ودخلت قطر في منافستها، وفي النهاية توجد محطة لتأسيس تبادل جتاري مركزه املنطقة في املستقبل ليرتبط بعصر ما بعد النفط الذي ميثل القلق االســترات­يجي األول بالنسبة لقيادات اخلليج، ألن العودة إلــى الوراء وإلى أزمنة الطبعة ليســت واردة لديهــم، وأمام الســباق الذي يخوضونــه مع الوقت، والتالقي بني الوفرة املالية واملرونة فــي القرار فإنهم يبدون متعجلني نوعا ما ملن يرصد األمــر من اخلارج، أما في احلقيقة التي يدركونها بعمق أنهم تأخروا بعض الشيء، وأن النفقات ســتتزايد وســيرافقه­ا النقد أحيانا، ورمبا شــعور الوصاية الذي يولده التفاوت بني املراكــز اخلليجية الصاعدة واملراكز التقليدية املســتغرق­ة في مشــكالتها وفي مراوحتها للماضي وفواتير التغيير الباهظة.

األوروبيون الذين يظهرون غير معتادين على تقبل التباين الثقافي وجدوا في قطر إشكالية تواجههم فأخذت اتهامات الرشوة والعنصرية تسبقهم إلى هناك

*كاتب أردني

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom