Al-Quds Al-Arabi

عندما حتكم الشعبوية إدارة الدولة في العراق!

- يحيى الكبيسي٭ ٭ كاتب عراقي

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ باســتثناء العــراق، حيث املوازنــة العامة هي أداة يوظفها الفاعلون السياســيو­ن من أجل مكاسب سياسية ومالية خاصة، أكثر مما تعبر عن استراتيجية عمل مالية أو اقتصادية قصيرة أو متوســطة أو طويلة األمد، فإن املوازنة العامة يفترض أنها تعكس السياسة املالية التي تتبعها احلكومة، وتوجهاتها االقتصادية!

كتبــت عام 2009 مقاال بعنــوان «املوازنة العامة: أزمة عجز أم أزمة سياســات» ملناقشــة املوازنة التي أقرت في تلك الســنة التي شــهدت انخفاض أســعار النفط (كان تقدير ســعر برميل النفــط 50 دوالرا فــي املوازنة)، وأشــرنا حينها إلى أن الدولــة التي تعتمد االقتصاد الريعي بشــكل كلي، يقتصــر دور احلكومة فيها على أســاليب وسياســات تدوير الريع النفطي داخل اجملتمع، إذ يشــكل ريع النفط ما بــني 38٪ و 78٪ من اإليرادات العامة، في حني ال تشــكل اإليرادات غير النفطية ســوى نســبة ضئيلة من تلك اإليرادات. وقلنا إنه ليس ثمة إرادة سياسية لزيادة هذه اإليرادات غير النفطية، بسبب عوامل عدة، من بينها قرارات تتعلق برفع الدعم عن اخلدمات العامة مثال، أو إعادة النظر في سياســات الدعم، خاصة تلك املتعلقة بالبطاقة التموينية، أو زيادة الضرائب املباشــرة (الضريبة على الدخل والثروة) وغير املباشرة مثل الرســوم اجلمركية. وهي قرارات قد تؤثر على شعبوية النخب السياسية بســلطتيها التشــريعي­ة والتنفيذية التي يحكمها التفكير باالنتخابا­ت العامة وجمهورها الزبائني، ومن املستحيل بالنســبة للسياسي العراقي أن يفرط في «زبونه» االنتخابي ويفكر في هكذا حلول!

وال يوجــد، بطبيعة احلال، حلــول ملعاجلة تضخم اإلنفاق العــام الذي يتطلب استراتيجية شــاملة إلعادة هيكلة االقتصاد العراقي، السيما فيما تعلق بالتضخم، غير املســبوق، في أعداد العاملني فــي الدولة، وأعداد من يحصــل على رواتب من الدولة بشكل عام.

مع ذلك، فإن ضغــط العجز املالي اضطــر احلكومة، حينها، إلــى اتخاذ بضعة قرارات خلفض النفقــات، من قبيل املادة التي تضمنتهــا املوازنة والتي نصت على إيقــاف التعيينات في الــوزارات كافة، فضــال عن حذف الدرجــات الوظيفية عن شــغورها بدال عن اســتبداله­ا كما جرت العادة (املادة /27 ثالثا). كما تضمنت مادة تطالب وزارة التجارة بإعــداد خطة إلعادة توجيه البطاقة التموينية إلى الطبقات األكثــر حاجة وعدم منحها الــى املواطنني الذين يزيد دخلهــم على مليون ونصف املليون دينار (املادة /34 أ).

كما تضمنت مواد بخفض رواتب ومخصصات أعضاء الرئاسات األربع (مجلس النواب ورئاســة اجلمهورية ومجلــس الوزراء ومجلس القضاء األعلى) بنســبة 02٪، وخفــض رواتب ومخصصات أعضــاء مجلس النواب والــوزراء ومن هم بدرجتهم ووكالء الوزراء والدرجات الوظيفية العليا بنسبة .٪10

لكن املوازنة تضمنت، أيضا، مادة تتناقض مــع كل هذه التوجهات (فيما يخص زيادة اإليرادات غير النفطية) حيث مبوجبها أعفيت الشركات املتعاقدة مع احلكومة العراقية ومؤسســاته­ا على مشــاريع املنهاج االســتثما­ري، من جميــع الضرائب والرسوم نتيجة أعمالها املذكورة وفي إطار العقد!

فــي العام التالي تغير املوقــف متاما، خاصة وأنها كانت ســنة انتخابات عامة! حيث اســتحدثت )115( ألف درجة وظيفية جديدة في موازنة عام 2010 (املادة /21 ثانيا)، مع عدم اإلشــارة إلى موضوع حذف الدرجات الوظيفية عن شغورها، وهو ما يعني العودة ثانية إلى اســتبداله­م بآخرين، وال ميكن النظر إلى هذه التعيينات ســوى من منظار االســتخدا­م االنتخابي لها من أجــل زيادة اجلمهــور الزبائني لألحزاب والفاعلني السياسيني، السيما أن تلك التعيينات ال تتم، في النهاية، إال من خــالل هؤالء! حتدث البرنامج الوزاري لرئيس مجلس الوزراء العراقي اجلديد عن «تعظيم إيرادات الدولة غير النفطية»، وعن «وضع هدف لتخفيض نســبة االعتماد على اإليــرادا­ت النفطية لتمويل موازنة الدولة خالل ثالث ســنوات إلى 08٪ من خالل تنويع وتعظيم اإليرادات غير النفطية».

لكن احلكومة فاجــأت اجلميع بالتصويت باملوافقة على قــرار إلغاء ضريبة الـ 02٪ املفروضــة على كارت شــحن املوبايــل واألنترنيت (بزعم رفــع العبء عن املواطن)، وفقا لبيان صادر عن مجلس الــوزراء، بداية من األول من كانون األول/ ينايــر ،2023 علما أن هــذا اإللغاء ليس من صالحية احلكومــة في األصل ويتطلب تشــريعا؛ فالقانون ال يلغى إال بقانون! وكانت هــذه الضريبة قد فرضت في قانون املوازنة العام لعام 2015 مع ضرائب أخرى على شــراء السيارات بأنواعها وتذاكر السفر، والسكائر واملشروبات الكحولية بنسب متفاوتة (املادة .)أ/33 وال ميكن فهم هذا اإللغــاء الذي يتناقض مع ما جاء في البرنامــج احلكومي، الذي لم ميض عليه شــهر واحد، حول زيادة اإليرادات غير النفطية، إال في ســياق سيطرة االرجتالية والشعبوية ال التخطيط، على ذهنية الطبقة السياسية العراقية، فهذا اإللغاء يعني، باألرقام، خسارة الدولة ما يزيد عن 600 مليار دينار عراقي سنويا!

في الوقت نفســه يبدو أن ثمة «قرارا» حتدثنا عنه قبل تشــكيل احلكومة بأشهر حول اســتخدام الوفرة املاليــة املتحققة للعودة إلى «سياســة التوظيف» لغرض رشوة اجلمهور عامة، ولزيادة اجلمهور االنتخابي للفاعلني السياسيني ودكاكينهم السياســية (ال وجود ألحزاب حقيقية في العراق، وكل األحزاب القائمة هي عبارة عن دكان سياســي يتحكم به املمول). على اعتبار أن هؤالء السياســين­ي هم الذين يتحكمون في التعيينات الوظيفية.

فقد حتدث البرنامج الــوزاري للحكومة، في فقرة تتعلق بـــ «مكافحة البطالة وتوفيــر فرص العمل «عن العمل علــى «تهيئة فرص العمل للشــباب في القطاعني احلكومي واخلاص، ملعاجلة البطالــة...». ومن الواضح من التصريحات احلكومية أن ثمــة إرادة حقيقيــة للعودة إلى سياســات التوظيف املنفلتــة واملفرطة والتي اعتمدت خالل السنوات املاضية، باستثناء السنوات التي شهدت عجزا ماليا كبيرا بسبب انخفاض أسعار النفط؛ ففي موازنة العام 2021 (حيث كان سعر النفط املقدر في املوازنة 45 دوالر) كان هناك مادة تتحــدث عن إيقاف التعيينات كافة مع حذف الدرجات الوظيفية التي يتم شــغورها مع اســتثناءا­ت محدودة (املادة /12 ثانيا/ أ)، ومــادة أخرى تتحــدث عن منع التعينــات والتعاقد في دوائــر الدولة كافة مع استثناءات محدودة (املادة /12 رابعا/ أ).

ال ميكن فهم هذه التناقضات إال في ســياقها السياســي، فالقرارات الشــعبوية واالرجتالي­ة والعشــوائ­ية هي احلاكمة، وال وجود للتخطيط طاملا اســتمر ســعر النفط مرتفعا ويحقق معدالت ريعية عالية نسبيا، وانخفاض أسعار النفط وحدها هي التي جتبر اجلميع على اتخــاذ قرارات مالية واقتصادية مؤقتة، ملواجهة العجز الناجت، وأنه ليس ثمة سياسات مالية او اقتصادية حقيقية متوسطة أو بعيدة املدى ملعاجلة االختالالت القائمة التي تتحدث عنها التقارير والدراسات احمللية والدولية، مبا فيها التقارير احلكومية نفسها، مبا فيها التقرير الذي أصدرته احلكومة العراقية الســابقة بعنوان «الورقة البيضاء» الذي كشف عن خلل جوهري يتعلق بتوظيف عوائد النفط املتزايــد­ة كأداة لتضخيم دور الدولة، وعن دور التوســع الريعي في تشويه الدولة واجملتمع!

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom