Al-Quds Al-Arabi

احللف األطلسي املعاصر: توسع «وجودي» يجب شر القتال

- صبحي حديدي٭

■ ليس حرجا ذلك الســلوك الذي اتســمت به ردود أفعال الرئيس األمريكــي جو بايدن واألمني العام حللف شمال األطلســي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، حول هوية الصاروخ الذي ســقط في األراضي البولندية؛ وحرص الرجلــني على نفي مســؤولية موســكو عــن إطالقه، واالكتفاء بسردية بسيطة وتبسيطية تقول إنه صاروخ دفاع جــوي أوكرانــي جنح عن مســاره فــي مواجهة الهجمــات الروســية. األصل هو كفاية شــر الصدام مع موسكو، من جانب التورط األطلسي على وجه التحديد، إْذ سواء صحت السردية أم اخُتلقت فال أحد على جانبي احمليط والبحر األســود وبحر البلطيــق يجهل مخاطر شــرارة مثل هذه، متثل تصعيدًا كفيًال بإشعال مواجهة مثل تلك. األطرف في السياق أن اتصاالت البيت األبيض والناتو مع احلكومة البولندية لم تســتهدف املواساة أو شــد األزر والتضامن، بقدر ما مارســت سلسلة ضغوط كي ال يطلــب الرئيس البولنــدي أندريــه دودا تفعيل املادة الرابعة مــن ميثاق احللف، والتــي تلزم احللفاء بالتشاور إذا شــعرت دولة عضو بأن سالمتها اإلقليمية أو استقاللها السياسي أو أمنها معرضة للتهديد.

مبدأ الصدام، أو كفاية شره سواء بسواء، يعيد املرء إلى حقيقة أن الناتــو ليس احللف العســكري الوحيد في عاملنا املعاصر، فحســب؛ وليــس التذكرة الوحيدة، تقريبا، بأن البشــرية عاشت احلرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحســب أيضا؛ بل هو كذلك حلف مصالح متقاطعة متالقية أو متعاكسة، قابلة غالبا لألخذ والعطاء طبقا ملبادئ املســاومة والتســوية واحملاصصة. ذلك ال يعني أن الناتــو ليس محاصصة جغرافيــة ـ حضارية ـ ثقافيــة، طبقا ملا كانت اإلنســاني­ة قــد فهمته من كالم الرئيس التشيكي األسبق فاكالف هافيل، قبل عقدين من الزمان حني احتضنت بالده قمة للحلف ال تشبه سواها من القمم، ألنها ببســاطة اعتبرت «قمة التحول». يومها قال هافيــل، في نبرة حتذير ال تخفــي، إن «على احللف أال يتوســع خارج مضمار محدد للغايــة من احلضارات التي عرفت عموما باســم احلضارات األورو ـ أطلسية أو األورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة». هل كانت تركيا هي املقصودة بذلك التعريف املضمــاري الذي ال يفلح متاما في تنقية كل الروائح العنصرية؟ أم كانت الدول التي ما تزال تعيش فيها جاليات مســلمة؟ وما الدافع إلى إطالق ذلك التحذير والقمة تناقش توسيع احللف شرق أوروبا وجنوبها، وضم ســبع دول جديدة إلى النادي؟ وأي من هذه الدول (التي تســلمت وثائــق عضويتها في احللف يومذاك: إســتونيا وبلغاريا وســلوفيني­ا وســلوفاكي­ا ورومانيــا والتفيا وليتوانيــ­ا)، لم تكــن تنطبق عليها معايير املضمار احلضاري األورو ـ أطلسي؟

البعض يســاجل، كما تفعل هذه السطور، بأن أسئلة كهذه تظل نافلــة كائنا من كان طارحهــا، ما دامت بنية احللف عســكرية ـ سياسية، وما دامت الواليات املتحدة في طليعة قيادته وتوجيهه على أصعدة شــتى ال تغيب عنها اعتبــارات مصالح أمريــكا اجليو ـ سياســة في املقــام األول. صحيح أن الفرنســين­ي واألملــان ال يكفون عن مضايقــة البنتاغون، واليمني في إســبانيا خســر معركة احللف املقدس مع واشــنطن، وتراث احللف في ليبيا والعراق وســوريا ليس البتة حصــادًا ُيعتد به... فــي املقابل يعرف جميــع أعضاء احللــف أن هزة 9/11 منحــت الواليات املتحــدة أكثر من ترخيص عســكري واحد؛ كما جنبت واشــنطن حرج التشاور مع احلليفات األطلســيا­ت كلما رن ناقوس في كنيســة. وإذا كان لقاء براغ قد اســتحق بالفعل تســمية «قمة التحول»، فليس ذلك ألسباب عســكرية أوال، وإمنا بسبب اختراق الناتو جميع مواقع حلف وارسو السابقة، وبلوغه ظهر روسيا وبطنها وخاصرتها، شما ًال وجنوب ًا وشرق ًا وغرب ًا!

صحيــح، كذلــك، أن التــوازن داخــل احللف ليس مختال لصالــح الواليات املتحــدة فقط، بل هــو يفتقر بالفعل إلى جملة العناصر التي تتيح اســتخدام مفردة «التــوازن» وفق أي معني ملموس. مراســل صحيفة الـ «إندبندنت» البريطانية اختار وجهة طريفة للتعبير عن

هذا االختالل، فســجل حقيقة أن الوفد األمريكي إلى قمة التحول تلك شغل ســبع طبقات من فندق الهلتون الذي احتضن الوفــود، مقابل طبقة واحــدة للوفد الهولندي مثال! وأما في مصطلحات أخرى أكثر داللة، فإن الواليات املتحدة تنفق، وحدها، مليــار دوالر أمريكي يوميا على شــؤون الدفاع، في حني أن مجموع الدول األوروبية الـ 15 األعضــاء في احللف تنفق قرابــة 500 مليون دوالر. وكان العالم بحاجة إلى انعدام الكياســة لدى الرئيس األمريكي الســابق دونالد ترامب، كي يقرأ تغريدات مثل هذه: «من دون جناح، حاول الرؤساء طوال سنوات دفع أملانيا وسواها من أمم األطلســي الغنية إلى سداد املزيد لقاء حمايتها من روسيا. إنهم يدفعون قسطًا ضئيًال من نفقتهم. الواليــات املتحدة تدفع عشــرات املليارات من الدوالرات أكثر مما يتوجب إلعانة أوروبا، وتخسر كثيرا في التجارة». أو هــذه: «وفوق كل شــيء، بدأت أملانيا تدفع لروســيا، البلد الذي تطلب احلماية منه، مليارات الدوالرات لقاء احتياجاتها من الطاقة عبر أنبوب آت من روســيا. هذا غير مقبول! جميع أمم الناتو يجب أن تنفذ االلتزام بـ2٪، وهذا يجب أن يرتفع إلى .»٪4

واحلال أن األطلســي بدأ ذراعا عسكرية أمريكية في الواقــع العملي، حيــث الوحدات األوروبيــ­ة املنضوية في عداده ليســت أكثر من استكمال للزخرف اخلارجي؛ وهكــذا يظل احللــف اليــوم، حتى بعــد أن تضخم في العدد، وفي العتاد، وفي مســاحة االنتشــار. لقد توسع من 12 دولة مؤسســة، إلــى 15 في خمســينيات القرن املاضي، حتى بلغ اليوم 32 دولة، باحتســاب الســويد وفنلنــدا؛ بينها ثالث جمهوريات ســوفييتية ســابقة (إســتونيا، التفيا، ليتوانيا)، وسبع دول أعضاء سابقة في حلف وارسو املنقرض (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا، ســلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، بولندا)، وثمة في ســجل الطامحني إلــى العضوية خليط متنافر يضم البوســنة والهرسك وجورجيا ...و أوكرانيا!

أما في مســتوى التبشــير اإليديولوج­ي، والعقيدة العسكرية، والغطاء التعبوي، فإن مســوغات وجــود احللف ميكــن أن تبدأ من اجلــزم بأنه «احللف األكبــر واألكثر جناحا في التاريخ»، حســب وزير اخلارجية األمريكي األسبق واجلنــرال املتقاعد كولــن باول؛ ولن تنتهــي عند يقني الرئيس الفرنســي األســبق نيكوال ســاركوزي (الذي ارتد عن الفلســفة الديغولية، وأعاد فرنســا إلى قيادة احللف العسكرية) بأن الناتو هو الضامن الوحيد لألمن األوروبي، الذي يأتي وال يأتي منذ عقود؛ فضال عن يقني دولة مثل تشــيكيا، بأن الفارق بني ركونهــا إلى الدفاع األوروبي، مقابل الدفــاع األمريكي، كالفارق بني األرض والسماء!

وأيــا كانت األســئلة «الوجودية» هذه، أو ســواها، فإن األمر ســيان من حيث خلود جوهر احللف، عسكريا وسياســيا؛ ما دامت الواليات املتحدة هي الدولة األهم في ضمان بقائــه على قيد احلياة، وفي تعزيز شــوكته التكنولوجي­ة بصفــة خاصة، دفاعــًا وهجومًا على حد سواء. صحيح أن الفرنســين­ي واألملان حاولوا مضايقة واشنطن قبيل غزو العراق، ســنة ؛2003 وأفغانستان، في عهــد أوباما، انقلبت مــن جبهة ثانويــة إلى أخرى مركزيــة... ولكن مــن الصحيح أيضا أنه غير مســموح ألوروبا الغربية (الرأســمال­ية، احلرة، املعافاة نســبيا بسبب من جميل الواليات املتحدة في حماية العالم احلر والرأســما­لية...)، أن تزدهر أكثر مــن ازدهار الواليات املتحدة نفســها، وأن توحد صفوفها باالنتقاص من مبدأ الهيمنة األمريكية على النظام الدولي. لهذا فإن الواليات املتحدة تصب ما تشاء من زيوت على حروب هنا وهناك، وال جتد حرجا حني تتفادى شر القتال، وال فوارق كبيرة هنا بني ترامب أو بايدن جلهة االفتقار إلى الدبلوماسـ­ـية أو اإلفراط في تسخيرها.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom