Al-Quds Al-Arabi

«الفنان محمود مختار»: أين كنا وأين أصبحنا؟!

إبراهيم عبد اجمليد ٭

- ٭ روائي مصري

■ مؤكد حني تقرأ هذا الكتاب الصغير الذي كتبه الشــاعر والباحث في التاريخ والصحافي ماهر حسن، ستستمتع بالسرد وعمق التعبير اللغوي، وعمق املعرفة عن محمود مختار الذي أعاد مجد فن النحت القدمي إلى مصر، ذلك الفن الذي كان أبلغ تعبير به وعنه من قبل أيام الفراعنة. ستدرك أيضا كم هي رائعة سلسلة «ذاكرة الفنون» التي تصدر عن الهيئة املصرية العامة للكتاب، والتي صــدر فيها هذا الكتاب، وكم بذل املشــرف عليها الفنان عز الدين جنيــب من جهد رائع. لقد أعلن عز الدين جنيب اســتقالته منها بعد فترة رائعــة من العمل، وأمتنــى أن يعود أو تظل على روعتهــا، فهو بفنه وكتاباته ليس في حاجة إلى أي منصب.

الكتاب الذي حمل عنوان «الفنان محمود مختار» ينقســم إلى قســمني. األول هــو حديث املؤلف ماهر حســن عــن محمود مختار منــذ امليالد إلى الوفاة، والثاني هو صور لنماذج من أعماله الفنية. تســبق القسمني مقدمة جميلة للفنان عــز الدين جنيب رئيــس التحرير. محمــود مختار هو أبو النحاتني املصريني، الفتــي الريفي الذي اجلأه القدر والظروف اإلجتماعية إلى أن يذوق طعم اليتــم واحلرمان والغربة صغيرا، حتى عوضته املوهبة املتفجرة عن كل السنني العجاف، كما يقول عز الدين جنيب في املقدمة.

محمود مختار صاحب التماثيل التي مير عليها كل املصريني في احلياة، وهي متثال نهضة مصر، ومتثاال ســعد زغلول في القاهرة واإلســكند­رية، ولــد عــام 1891 وتوفي عام 1934 وخــالل هذا العمر عــاش دراما مذهلة. لقد تزوجت أمه من الشــيخ ابراهيم العيســوي عمدة قريــة طنبارة هي التي تعيش في قرية «نشــا» وهي ســليلة عائلة البدراوي ـ ذكرني األسم بالبدراوي باشــا، الذي صادر اخلديوي إســماعيل أمالكه بال سبب ونفاه إلى السودان، كما جاء في كتاب «رسائل من مصر» للوسي دوف جوردون، الذي قمــت بترجمته منذ عامني، وعرفت بعد صــدور الكتاب من عماد أبو غازي، أن البدراوي باشــا كان جده من ناحية األم. عماد أبوغازي هو ابن الكاتــب بدرالدين أبو غــازي ابن أخت محمود مختــار، وصاحب األعمال العظيمة عن فناني مصر مثل يوســف كامل ورمسيس يونان وراغب عياد وغير ذلك، فضال عن كتابيه عن مختار بالعربية والفرنسية.

عماد أبــو غازي أيضا صاحب كتب عظيمة مثل «االحتالل العثماني ملصر وسقوط دولة املماليك» و»طومان باي الســلطان الشهيد» كما حقق وقدم كتاب «مصطفي النحــاس ـ مذكرات النفي» الذي كتبت عنه هنا منذ حوالي عامني.

ارحتل الزوج الشــيخ إبراهيم العيســوي بزوجته اجلديدة إلى بلدته، كان قد فقد زوجته األولى وانقســم بيته إلى قســمني بني زوجته اجلديدة وأوالده من زوجته السابقة، وكان في اخلمسني. أجنب من زوجته اجلديدة طفال ســماه محمود مختار، فصار اخلالف بني األبناء األسبق وأم محمود مختــار خلوفهم على امليراث، وبعد أن صارت لهــا طفلتان أخريان أخذتهم األم إلى قريتها لتستقر في بيت أخيها، مبتعدة عن كل صراع، إال تربيتهم.

لم تكن الســيطرة على الطفل محمود مختار ســهلة. فهو يفر من الكتاب الذي يتعلم فيه، ومن البيت إلى الترع وطينها، ويصنع منها متاثيل صغيرة ملا حوله من مشــاهد احلياة. من فالحات متألن اجلرار إلى مشاهد العودة من احلج، ومتاثيل من شخوص حكايات يســمعها ممن حوله عن أبي زيد الهاللي أو غيره. لم يكن حتى مييل إلى اللعب، بل ميضي وقته مع ما يصنعه من متاثيل، وما يســمعه خارج الُكّتاب من حكايات. سافرت أمه لتعيش في القاهــرة بقصد العالج فمنع خاله ذهابه معها خشــية أن يلتحق باملدارس وتفســده طراوة القاهرة. بقي الصبي في البلــدة تعزيه هوايته عن فراق أمه، لكنه لم يســتطع البقاء فسافر إلى القاهرة مشيا مع أحد شيوخ القرية الذي كان يهوى احلياة احلرة واملشي بني البالد.

في القاهرة مع أمه قضي أيامه في مدرســة وصار يرســم ويســتمر في منحوتاتــه. كانت مصر فــي طريق النهضة في كل اجملــاالت، وحني افتتح األمير يوســف كمال مدرســة الفنون اجلميلة في درب اجلماميز عام 1908 كانت بابا للمواهب مثل مختار وراغب عياد ويوســف كمال ومحمد حسن وغيرهم. جلب يوســف كمال للمدرسة كبار األســاتذة من فرنسا وإيطاليا وغيرها، وانتهى األمر بأن أرسل األمير يوسف كمال، الصبي محمود مختار إلى باريس، فكانت هذه هي ومضة الضوء التي أنارت حياته، رغم ظروفها الصعبة من أخ كبير استولى على معظم ثروة األب.

ننتقل إلى باريس وحياة أخرى. انظر إلى هذا الكالم. كانت رحلة مختار على الباخرة إلى مارســيليا فأصابته الصدمة حني رأى مارسيليا مثل قرية قياســا باإلســكند­رية. وصدم مرة أخرى حني وصل إلــى باريس بالقطار فوجدها أقل جماال من القاهرة. نترك ذلــك ونتابعه. كان ال ميكن أن يدخل إلى مدرســة الفنون في باريس إال بعد تدشينه هو والطلبة اجلدد، جعلوه يخلع كل ثيابه ووضعوا على رأســه تاجا مكتوب عليه رمســيس الثاني، ووضعوه فوق محفة طافوا بها في شــوارع باريس، ومظاهر أخرى عجيبة للحفل، فصار الشرقي احلزين فتى مرحا. أحاديث عن أساتذته هناك وعن مــن التقى بهم من الكتــاب والفنانني ومن فتنته من النســاء مثل جيرمني ومارسيل، وَمْشَغله الذي أقامه هناك، والتماثيل التي انتهى منها وعرضت هناك أيضا مثل النموذج املصغر لتمثال نهضة مصر وغيره.

ذاع صيته واحتفت به الصحف واجملالت الفنية الفرنســية، فاحتفى به ُكّتاب مصريون عظماء وسياسيون وفنانون مثل، مجد الدين حفني ناصف وحافظ عفيفي وواصف غالي وأمني الرافعــي وغيرهم، وحني عاد قرر كل هؤالء وغيرهم مبن فيهم ســعد زغلول، إحياء فكرته في إقامة متثال نهضة مصــر، الذي يعبر عنها ذلــك الوقت أعظم تعبير. بــدأت الدعوة لالكتتاب إلقامــة التمثال. عندمــا تعرف كــم كان االكتتاب مصدر بهجــة لكل أفراد الشعب، مثقفني وباشوات وعماال وأطفاال ونساء وفالحني حتى الشحاتني تبرعوا إلقامته، تدرك كيف كانت احليــاة في مصر وقتها. صار التمثال في مستوى مقدس وفكرة قومية ال ميكن التخلي عنها أمام االستعمار.

طبعا لم يكن األمــر ميكن أن مير دون عقبات خاصــة من البيروقراط­ية املصرية، حني آل األمر لوزارة األشغال التي انتقلت إليها مسؤولية التمثال عام .1924 مر العمل بالتمثــال بأوقات طيبة وأوقات عصيبة. من الطرائف أن تطلب منه مصلحة املباني حني اقترب التمثال من النهاية شــهادة حسن ســير وسلوك، فأرسل إليها ساخرا يقول «لقد ُطلب مني بالكتابني املؤرخني في 5 و 12 يناير/كانون الثاني أن أقدم شــهادتْي حســن سير وسلوك. وملا كنت سيئ الســلوك واخللق، كما أني قضيت في السجن خمسة عشر يوما، فضال عن أني من ذوي اللحى، وهو ما ينظــر إليه هنا بعني الريبة، وأيضا فإنني أعزب وأتردد على بعض املنازل اخلاصة، ومن هنا سيدي املدير إنني في اســتحالة مطلقة أن أقدم الشــهادات، وإنه ُقضَي علــى أال أكون موظفا حكوميا».

طبعا هذه البيروقراط­ية لم تقف أمام اإلجماع على موهبة وعظمة محمود مختار، وصخب البرملان من أجل تســهيل كل شيء، حتى انتهى من التمثال العظيــم عــام 1928 ووضع في البداية فــي ميدان رمســيس، ثم صار في موضعه اآلن أمام جامعة القاهرة، حديث مؤلم بعد ذلك عن مرضه وفشــل الطب في فرنسا ثم مصر معه حتى توفي في مارس/آذار عام .1934

حديــث رائع عن اجملهود العظيم لهدى شــعراوي في جمع أعمال مختار في مصر وخارجها، وإقامة متحــف مختار، ثم حديث فني جميل عن بعض متاثيل مختار وشــرحها للمشــاهد، باإلضافة لألحاديــث الفنية فمختار والكتــاب يعيدون لنا روحــا افتقدناها. لقد وصلنا لألســف إلى الدعوات بحرمة الفنون. أنظر أين كنا وأين أصبحنا.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom