Al-Quds Al-Arabi

فوتوغرافيا: املطرودون من مجالهم

التشكيلي العراقي ناصر عساف

- جاسم عاصي

■ الطرد فــي كل األحوال يعني االبتعاد عــن اجملــال املرتبــط بالــذات. . والنظر إلى الواقــع الذي حمتــه العالقــات االجتماعية املتولدة مــن طبيعة العالقــات االقتصادية التــي تنتج تباينات طبقيــة وفئوية تتطرف فــي كل األحــوال والظواهــر، التــي هــي نتاج العالقــات العاّمة. فهــؤالء ُأبعدوا عن مجاالتهم للعديد من األســباب، فاملســنون غادروا بيوتهم للتكسب املذل على األرصفة وتقاطعات الشــوارع، أو الــدوام على طرق األبواب وطلب احلاجــة. كذلك الصبية في التقاطعــا­ت لتنظيف زجاج الســيارات بعد تركهم مقاعد الدراسة، والنساء اجلالسات على طرف العربات املليئة بنفايات املكبات، بعد جمعهــا من أمــام املطاعم والشــوارع. كل هذا بدأ يســتفحل علــى الواقع ويفرض وجوده كظاهرة شاذة وغير إنسانية.

رصد اليومي

لقد متكــن الفوتوغراف­ي ناصر عســاف أن يرصد هــذه الظواهر بصورة مدروســة التشــكيل الفني، وليــس اعتبارهــا لقطات عابــرة. فرؤيــة كادر الصــورة تعطــي مجموعة من املعانــي، والــرؤى واجلدل املعرفي يخص دراســة الظاهــرة ونقدها عبر مكونات الصــورة الفنية، من خالل وضــع معادلــة فنيــة تراعي توزيــع الضوء والظل، كذلــك االهتمام بطبيعة اللقطــة في اختيار زاويتهــا، وما يرافقها من مكمالت تؤكد ســرديتها وصعودها باملعنى إلى مرتبــة النتاج الفني الناقد. لقد شكلت الظواهر تلك نوع من السيادة االنتاجية إذا مــا قورنت مع نتــاج أقرانه ومنهــم الفنان فؤاد شــاكر فــي مجــال رصــد واقع احلــارة الشــعبية والشــوارع واألزقة الشــعبية. كذلك الفنان جاسم الزبيدي وولعه املباشــر في ظاهرة احلرب، خاصة احلرب اللبنانية. كل هؤالء وغيرهم وظفوا الصورة لصالح الكشــف عن حياة املطرودين من مجاالتهم جملموع األسباب الواقعية كما ذكرنا.

والفنان عساف من بني ما تابع وبتركيز حكائي لنموذج بشري كثرت في اجتاهه النظرات املتأسية، لكننــا نأخذ بظاهــرة الطرد، ســواء كان اختيارا أو إجبــارا وبفعل الظــروف التي ذكرناها، مســلطني الضــوء على منوذجه الذي اتخذ له مســتقرا خارج مجاالت املدينة، أي اختار اجملال الفارغ ليؤسس له معنى، سواء للمكان أو وجوده املعبر عن احتماالت املعاني التــي يبني عليها الرائــي البصري للصورة أو الرائــي املباشــر حــني يصطــدم بوجــوده فــي الفراغ الواســع من الوجود كمكان. وهذا ما سوف نعاجلــه في مداخلتنا هذه من بــاب االختيار احلر، أو الضغط املرضي الختيار العزلة. فقد انتبذ مكانا قصيًا بعيدًا عن اآلخر، مبعنى ميكننا أن نبرر موقفه أو إجراءه الذاتي باملوقف الفلســفي، مستندين في هذا باإلمساك باملبرر، كونه طالبا تعرض لالعتقال والتعذيب. أي أنه نتاج الصدمة القاهرة، متاما كما كان منوذجي في روايتي «املكعبات احلجرية» و«ما حفظه اجلدار من أسرار».

منوذج (أبا زهير) فــي محطة أور أثناء التحاقي الدوري باملدرســة التي تقع فــي محطة صحراوية، وهــو منــوذج صاحــب علم وفقــه. متامــا كما ذكر الفنان عــن منوذجــه الذي اختــار العزلــة. فكانت صعوبة تشــكيل مــا رافق حياته من مــأوى، اعتمد علــى قدراته في تنظيم مــأواه املتكون مــن نفايات البيئة، مشك ًال كوخ ًا صغير ًا مادته الكارتون املهمل، وقطع الصفيح املتروك. املهم أنه بهذا اجلهد حاول طرد عوامل املــوت، واإلبقاء على عوامل البقاء، أي أنه ســاهم بجهد ذاتــي أن يحقق معادلــة متوازنة وفق اختياره لصورة احلياة اجلديدة، والتوفر على عوامل بنائها، وهي جدلية الوجود والفناء.

هذه اخلالصــة في التفكيــر ال تنتمي إال إلى جــدل الفلســفة، أي جــدل التعامل مع ثنائية املوت والفناء، باالنتصار في اختيار الوجــود املتحقــق. هــذا مــن جهــة التفكير احلــي، أما مــن جانب املتحقــق الذي يؤمن فيــه، وهو التوفــر على القناعــة الذاتية في عالــم العزلة بعيــدا عن اآلخــر، فاآلخر من وجهة نظــره الوجودية هــو املنفى املتحقق للذات.

فئة الرصيف

فالفنان عساف يلزم نفسه في اقتناص اللقطــات املؤثــرة فــي احليــاة اليوميــة، اللقطــات التــي تفتــح الــرؤى احملــاورة للظواهــر القاهــرة. إن ميلــه هــذا نابع من مأساة الشارع والرصيف والزوايا املهملة في املدينــة؛ كالظواهــر االجتماعية وبروز األحيــاء الفقيــرة التي ال تتمتــع بامتيازات ســوى ظاهرة التهديــد املتواصلــ­ة بتهدمي مــا بنــوه كمــأوى، لعــل منــاذج األرصفة واحــدة من االهتمامــ­ات املهمــة لكاميرته. كمــا أنــه اهتــم بشــريحة تنتمي إلــى فئة الرصيــف، وهم مناذج املطروديــ­ن من مجالهم في احلياة. والطرد تتشــعب قيمته، أي أسبابه، لكنها فــي النتيجــة تتموضع ضمن اإلهمــال االجتماعي والضغــط غيــر املبــرر مــن القــوى املتنفــذة. وقد الحظت في ســياق احلياة أن ثمة مطرودين قسرا في مستشفى الرشــاد في بغداد. هؤالء الشريحة التــي تطبعــت على مــكان الطــرد، واعتبرته بحكم األلفة معه كــدار البقاء. ومناذج الفنــان اتخذت له مكانًا قصيًا نســبيًا، مكانًا ال شرقيا وال غربيا، بل هو ضمن فضــاء مفتوح، افترض املطــرود أنه دار اســتقرار لوجــوده، فعمل على تأثيثه بعد تشــييد معاملــه من نفايــات البيئــة. وحكاية النمــوذج هذا كان لهــا مســبب موضوعــي للطرد، فهــو لم يختر غيــاب ســيطرة العقل فقط، بــل ترحيــل عقله في اجتاهــات متذبذبــة، بقدر مــا فرضته عليــه حالة اســتطاعت أن ُترّحــل الســيطرة علــى فعالياتــه املباشرة. فاضمحالل سيطرة العقل على فعاليات اجلسد، كانت خير مالذ اختاره النموذج كي يأوي إليــه. ولعله هنا ظهر على حــاالت ترتبط بالفضاء النفســي، ألنه أساســا لــم يهمل اجلســد بقدر ما أعاره أهميــة وقيمة، والواضح أنه ظهر في الصور نصف عاري معتزًا بجسده متامًا.

تقول احلكايــة املرتبطة باألجــزاء التي تظهرها الصــور؛ إنه بدأ مســتقرا فــي اختيــار البقعة التي يســكنها، ودأب علــى جتميع ما من شــأنه جتميل املــأوى اجلديــد وإظهــاره بالصــورة التــي توفــر لــه حصــرا القناعــة. فــكان املــكان وكان الزمــان يتواصالن بوتيــرة صاعدة. فهو كاإلنســان األول حــني اختــار الكهــف. منــزل النمــوذج مركــب من مواد تركتها ذائقة اإلنســان ألنها غيــر مفيدة، بعد أن اســتنفدت فائدتهــا، ما خلــق منه حيــاة جدية ومفيدة، والنموذج من جعلها مفيدة بحكم وظيفتها اجلديدة. إذن كان اإلنســان هنا يدرك ضرورة بذل اجلهــد لتحويــل وظائــف املهمــل، وهذا لــه عالقة بالعقــل أساســا فــي مــا يخــص االختيــار األمثل لألشــياء. وهذا بطبيعة احلال نوع مــن التعبير عن فعاليــة العقل، وإن كانت النظرة االجتماعية إزاءها مختلفــة، وتوصيفها باجلنون واخلبــل والضياع. لكــن النمــوذج خلق من ضياعــه وجــود ًا جديدًا ذا معنــى يســتمرئ خاللــه وجــوده الذاتــي، ويألف املفردات اجلديدة، ألنها توفــر له األمان في املكان، ودفع األذى من تصرفات اآلخر.

هذا هو منت احلكاية التي حقق رويها فوتوغرافيا ناصــر عســاف، محققًا بذلــك منجزًا ُيضــاف إلى ما حققــه من قبــل وهو يرصــد حيــاة املطرودين. وفي لقطات راعت البنيــة الفنية، حيث اختار وفرة الضــوء الطبيعية ليعكس وجود النمــوذج. كما أنه اهتم باحلركة التي يبديها النموذج، سواء للمصور أو أي إنســان يقتحــم عزلتــه، مبعنى وفــر للقطته حركــة معبــرة. فالنموذج يحــاور بحركة اجلســد كل مــا يدخل عاملــه. فهي لقطات محاورة وليســت صياغات تســجيلية فقــط. لقد ظهــر النموذج على حالة فائقــة احلرية والثقــة في عزلتــه. فاالختيار وفــر لنا وللمصــور نوعا مــن القناعــة الذاتية، مما غير نظرة الرائــي للنمــوذج، دون أن يولي اهتماما للســبب الــذي خلــق احلالــة، فالوجــود اآلني من يخلــق االنطبــاع بســلوكه وبالتالــي احتــرام هذا السلوك الذي ال يســبب األذى لآلخر، بقدر ما يعبر عن موقــف للمعــزول أو املطرود مــن مجاله. نرى أن دراســة هذه الظاهرة غير مختصرة على املصور كفنان، وإمنا من وظائف واهتمام كل من يعمل في حقول اإلبداع.

 ?? ?? عدسة الفنان ناصر عساف
عدسة الفنان ناصر عساف
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom