Al-Quds Al-Arabi

كيف يقرأ أردوغان موقف موسكو وواشنطن من نيته «غزو سوريا»؟

يصافح السيسي في الدوحة ويطمح إلى «مونديال الغاز»

-

الصورة السياســية املهمــة في املونديال تعود إلى مشــهد املصافحة بــن الرئيس التركي رجب طيــب اردوغان ونظيره املصــري عبــد الفتاح السيســي، وهمــا يبتســمان قبل بدء املباريات. مت التخطيط للقاء «العفوي» وحياكته جيدا من قبل حاكم قطر، الشيخ متيم بن حمد، بالتعاون مع كبار رجال احلكم في مصر وتركيا بهدف املضي بالعالقات بن الدولتن العدوتن.

لقد مرت تسع ســنوات تقريبا على القطيعة شبه التامة في العالقات بن تركيا ومصر، بعد أن استولى السيسي على احلكم فــي مصر في متوز 2013 وعزل الرئيس املنتخب، رجل اإلخوان املسلمن محمد مرسي. لم يعترف اردوغان بشرعية السيسي، وأطلق عليه مختلف ألقاب اإلدانة واعتبره ديكتاتورا اختطف احلكم، واســتضاف في دولته كبار شخصيات حركة اإلخوان املسلمن، وعقد حتالفًا أمنيًا واقتصاديًا مع العدو اللدود ملصر، قطر، التي فرضت عليها السعودية واإلمارات والبحرين ومصر حصارًا اقتصاديًا شــديدًا، إلى حن حدثت الثورة في الســنة املاضية؛ فقد رفعت دول اخلليج املقاطعة التي اســتمرت ثالث ســنوات على قطر. اســتأنفت أبو ظبي العالقات الدبلوماسي­ة مع تركيا، وقدمت لها رزمة هدايا كبيرة على شــكل مســاعدات مالية مببلغ 10 مليارات دوالر، وتعهدت باستثمارات مشابهة؛ كما ســارت الســعودية في أعقابها بعد أن «أغلقت» تركيا ملف التحقيق في قتل الصحافي جمال خاشــقجي، وسبق أن أعلنت عــن نيتها إيداع 5 مليارات دوالر فــي خزينة البنك املركزي في تركيا.

كما عادت عالقات تركيا مع إسرائيل، على األقل رسميا، إلى مسارها الســابق. وبقيت مصر في غرفة االنتظار. التقت وفود دبلوماســي­ة تركية ومصريــة عدة مرات بهــدف التوصل إلى اســتئناف للعالقات، لكن السيســي لم يكن متسرعا، فله عدة طلبات أساســية من تركيا، من بينها تســليم كبار شخصيات اإلخوان املســلمن ملصر، ال سيما ســحب القوات التركية التي تســاعد احلكومة املعترف بها في ليبيا، في حن أن مصر تؤيد وتدعــم اخلصم االنفصالــ­ي اجلنرال خليفة حفتــر. إذا كانت تركيا قد غيرت موقفها قليال من اإلخوان املســلمن، حيث قيدت نشاطات قناة التلفزيون للحركة التي تعمل في تركيا وحظرت على زعمائها القيام بنشــاطات سياســية علــى أراضيها، فإن مســألة ليبيا أصعب بكثير. فهي تتعلق بفضاء نفوذ تركيا في البحر املتوسط وترســيم احلدود االقتصادية بن ليبيا وتركيا بصــورة قد تقطع نقل الغــاز املصري إلى أوروبــا وإلى تقوية اإلخوان املســلمن في ليبيا بصورة، حســب رأي مصر، تهدد أمنهــا القومي. ما لم يتم حل قضية ليبيــا التي أدت إلى جتميد احملادثات الدبلوماسـ­ـية بن مصر وتركيا في أيلول، لن تتطور املصافحة التي جرت في قطر إلى تبادل للسفراء بن الدولتن. ألن هذه القضية ال تتعلق بعالقات تركيا مع مصر فقط.

ثمة دولة خشيت من بادرة حسن النية هذه، وهي اليونان، التي أرســلت وفدًا رفيعًا بعد يومن إلى مصر للتحقق من عدم وجود أي تغيير في سياســة القاهرة، والتوقيــع على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال البحث واإلنقاذ في البحر املتوســط. يبدو أن هذه مذكرة إنســانية اســتهدفت تأســيس إطار عمل مشــترك للبحث عن وإنقاذ أشــخاص وســفن وجدت نفسها في ضائقــة. ولكنها مذكــرة تقتضي توزيعــًا جغرافيًا ملناطق املســؤولي­ة البحرية بــن الدولتن. هذه املناطــق تتداخل في جزء منها مع مناطق املياه اإلقليمية التي مت ترسيمها بن تركيا وليبيــا، وفعليا ال تأخذهــا في احلســبان، وكأن االتفاق على تقسيم املياه اإلقليمية بن تركيا وليبيا الذي وقع في 2019 غير قائم.

سارعت تركيا إلى الرد بشــدة، واعتبرت االتفاق بن مصر واليونان غير قانوني. اتفاق هدفه توســيع املنطقة السيادية البحرية لليونان ونســف االتفاق الذي وقع بن تركيا وليبيا. هذا االتفاق أدى في حينه إلى إنشاء منتدى الغاز لشرق البحر املتوسط الذي في عضويته إسرائيل ومصر واليونان وقبرص واألردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، والذي استهدف كبح طموحات تركيا في البحث عن الغاز في شــرق البحر املتوسط. تركيا لــم تتوقف، وبدأت فــي التنقيب عن النفــط والغاز في مناطق تدعي اليونان وقبرص ملكيتها عليها.

يكفي هذا اخلالف السام لنسف استئناف العالقات بن مصر وتركيا، لكن بصورة متناقضة، قررت الدولتان تعزيز العالقات االقتصادية بينهما حتى قبل استئناف العالقات الدبلوماسي­ة. تركيا أصبحــت الدولة الكبرى التي تســتورد الغاز من مصر، وبدأت الشــركات التركية االســتثما­ر في مصر. بعد اللقاء في قطر، قــال اردوغان للمراســلن بأن «العالقات بن الشــعب التركي والشعب املصري مهمة لنا. ما الذي مينعها من أن تكون كذلك؟ لقد عرضنا إثباتات عن حســن نوايانا... لنا طلب واحد فقط من مصر، وهو إقامة ســالم في البحر املتوسط رغم الذين يتخذون موقفا ضدنا»، أوضــح اردوغان وهو يقصد اليونان، لكن لم يقصدهــا وحدها، فدول االحتــاد األوروبي والواليات املتحدة تعارض ما تســميه «استفزاز تركيا في البحر املتوسط الذي ميس االستقرار في املنطقة».

اردوغان والسيســي لم يحددا موعدا الستئناف العالقات، وحتى ليس الســتئناف احملادثات. عبر اردوغان عن أمله بأنه وبعد االنتخابات الرئاسية التي ســتجريها تركيا في حزيران القادم، «نســتطيع اســتئناف العالقات مع الــدول التي بيننا وبينها مشــكالت». هكذا ضم مصر، بل سوريا أيضا. اردوغان الــذي يطمح إلى حتويل تركيا إلى مركز تســويق دولي للغاز، وهو الطمــوح الــذي تؤيده روســيا، يأمل فــي التغلب على اخلالفات مع مصر وإقناعها بتحويل، (وإســرائيل بتسويق) غازها إلى أوروبــا عبر تركيا، وأن تضم إليهمــا الغاز والنفط الذي قد يصــل من إيران في حالة رفــع العقوبات عنها، وبهذا تتحول إلى دولة طاقة دولية عظمى.

لكنهــا طموحــات تقتضي مــن اردوغان أن يتبع سياســة حذرة جتاه الــدول األوروبية التي هي غيــر راغبة في منحه القوة االقتصادية والسياســي­ة التي يســعى إليها. يقف أمام ناظريهم التحالف السياســي – االقتصــاد­ي الذي يتوطد بن روســيا وتركيا والتحركات العســكرية الردوغان في سوريا.

مر أســبوعن تقريبا منذ العملية القاتلة بشارع االستقالل في إسطنبول، التي قتل فيها ستة أشخاص وأصيب نحو .80 تركيا تهــدد بغزو جديد لســوريا. بعد أربعة أيــام متواصلة قصفت فيها الطائرات التركية أهدافا في شــمال ســوريا وفي العراق، وسجلت طواقم أرضية تابعة لسالح اجلو أسماء األطفال الذين قتلوا في العملية على القذائف، أوضح اردوغان بأنها «ليســت سوى البداية».

كبير مستشاريه واملتحدث باســمه إبراهيم قالن، غرد بأن «هذا هو االنتقام على ما حدث في االستقالل».

كانت هي الهجمات األوســع واألعمق التي نفذتها تركيا في األراضي الســورية منذ سنوات، واردوغان ال يخفي نيته لغزو ســوريا برا. «اجلهات ذات العالقة عندنا، وزارة الدفاع وهيئة األركان، ســتقرر اآلن حجم القوة البرية التي يجب أن تشارك في عملية عسكرية»، قال للمراســلن. في املناسبة نفسها، قام بتصفية احلســاب مع اإلدارة األمريكية، التي تواصل مساعدة القوات الكردية في ســوريا، وبهذا -حسب قوله- يساعدون اإلرهابين الذين يهاجمــون تركيا. «ال ميكننا الوقوف مكتوفي األيدي أمام هذه الهجمات»، أوضح.

غزو تركيا لســوريا وقف على األجندة منذ بضعة أشــهر، لكنه توقف بضغط من روســيا وأمريكا. واشنطن، التي تعطي رعايتها األساســية للقوات الكردية والتي تعتبرها قوة ناجعة وأساســية في احلرب ضد «داعــش»، ملزمة بضمــان حماية األكراد في شــمال سوريا. روســيا تقلق من اقتطاع غزو تركيا لشريحة أخرى من األراضي السورية، وإحلاق ضرر بجهودها، غير الناجحة حتى اآلن، للتوصل إلى حل سياســي للحرب في سوريا.

لكن عقب احلــرب في أوكرانيا، تغيــرت منظومة الضغوط على أنقرة. رغم املســاعدا­ت العســكرية التــي تعطيها تركيا ألوكرانيا، التي تشــمل بيع مئات الطائرات املســيرة املسلحة، التي ساهمت بشــكل كبير في حتويل مسار احلرب، تعد تركيا ركيزة اقتصادية روســية مهمة، ألنها لم تنضم للعقوبات، ولم تعط مباركتها الكاملة النضمام الســويد وفنلندا للناتو. تقوم

روســيا ببناء املفاعل النووي التركــي األول إلنتاج الكهرباء، وجتري بن الدولتن محادثات إقامة ميناء جتاري روسي قرب مدينة مارسن على شــواطئ البحر املتوسط. من غير الواضح كم سيكون عمليا إنشــاء امليناء، لكن االتفاق على بناء املفاعل يتضمن بنودا تتحدث عن نقل متبادل للتكنولوجي­ا، ســتكون لروسيا إمكانية إلقامة بنى حتتية حيوية ألداء املفاعل، مبا في ذلك شوارع من أجل الوصول إلى املوانئ. العالقات اجليدة بن اردوغان وبوتن ساعدت أيضا في التوصل إلى اتفاق احلبوب بن روســيا وأوكرانيــ­ا واألمم املتحــدة، الذي يســمح بنقل مالين أطنان احلبوب من أوكرانيا عبر تركيا إلى دول الشــرق األوســط، التي تعرضت ألزمة اقتصادية شــديدة عقب ارتفاع أسعار القمح.

إذا قرر اردوغان غزو ســوريا، فمن املشــكوك فيه أن تقف روســيا في طريقه في هذه املرة. ستكون املعضلة األكثر تعقيدا من نصيب الواليات املتحدة؛ فالعالقات املســممة بن اردوغان والرئيس األمريكي بايدن غيــر جديدة، لكن األمر األخير الذي يحتاجه هو أن تعاقب تركيا واشنطن وتدمر نطاق تعاونها مع روسيا أو تقرر االنسحاب من الناتو كما هددت في السابق.

الرئيس األمريكي جو بايدن، الذي أجل محادثته األولى مع اردوغان لبضعة أشــهر، ووصفه بـــ «ديكتاتور» وأوضح بأن «عليه دفع الثمن» بسبب املس بحقوق اإلنسان وشراء منظومة الدفاع اجلوي الروســي من نوع «اس ،»400 حتول في الســنة األخيرة إلى وســيط متحمس جدا لبيع طائرات اف61 حديثة لتركيا.

اآلن يجد بايدن نفســه عالقا بن الرغبــة في بيع الطائرات القتالية لتركيا، واســتخدام تركيا لها ضد القوات الكردية في ســوريا. رمبا يخرج الكونغرس األمريكي اجلديد لبايدن حبة البطاطا الساخنة من النار ومينع بيع الطائرات. ولكن سيتعن على بايدن مواجهة ثمن الشــرخ الذي من شأن خطوة كهذه أن تتســبب به للعالقات مع تركيا. بالنسبة لألكراد، قد يكون هذا قضية وجودية.

هآرتس 2022/11/25

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom