Al-Quds Al-Arabi

في مصر... التوهمات والواقع الرث

-

فــي هــذه األيــام املفترجة التــي ال تتكــرر إال كل أربعة أعــوام، حيث يصــل فيها الهوس بكرة القدم مداه، فيشــغل النــاس عن مشــاكلهم، ويقدم لهم متع ًة عزت بنشــا ٍط صحي (في اجملمــل) ال يكلفهم كثير ًا، وقلما يدخلهم السجون، وبينما حتتل احلرب األوكرانية بؤرة تركيز املراقبني، ويحبسون أنفاسهم تارة ويخشون، محقني، خروجها عن الســيطرة لتصبح حربا كونية، ناهيك من أحداٍث أخرى لها أهميتها أيضا، كاحلملة التركية في شــمال ســوريا، وتفجيري القــدس األخير، تلك التطــورات التي كان من شــأنها أن تلقى اهتمامًا أكثر، وُتســلط عليها األضواء لوال احلرب األوكرانية، فوجئت مبا لقيه اللقاء العابر، ومن ثم املصافحة بني السيســي وأردوغان من اهتمام وحتليل في بعض كتابات الصحافيني في مصر.

بداية، ال بد من أن أعتــرف وأقر مبا لذلك التقارب من مغزى، ومــن كونه تطور ًا مهم ًا، بغض النظر عــن تقييم أ ٍي من كان له، وإذا ما كان في االجتاه الصحيح، أم اخلاطئ، لكن ما يدهشــني حقيقة هو ما رآه فيه زمرة من كتبوا عنه، والسياق الذي يكتبون فيه، وما تفضحه اآلراء التي عبروا عنها من عقليٍة وبني ٍة فكرية. من املعروف في السياسة بالضرورة أن للدول واألنظمة مصالح دائمة، قلما تتغير، فالذي يفرضها أو ميليها من جغرافيا وتاريخ محمل بالتطــورا­ت، وما صبغته من مزاج وأفــكار ومواريث ال تتغير كثيرا بدوريها، أما التحالفات فمتغيرة وفي حالة سيولة مبا يخدم املصالح العليا؛ وال يخفــى أن أردوغان، بغض النظر عن رأينا فيه، أثبت عبر األعوام أنه سياســي محنك على درجة عالية مــن املرونة، نهاز للفرص، يجيد، أو على األقل لن يحجم، عن تغيير مســاره، ورمبا عكســه وفق املصلحة وبغض النظر عن آرائه وانحيازاتـ­ـه املعلنة، وفي املقابل فالسيســي مأزوم اقتصاديا، ورمبا يحاول أن يتعلــم، بغض النظر عن احتماالت جناحه، نظرا لنشــأته وطبيعته ومحدوديــة قدراته وذكائه. ليس مــن قبيل املبالغــة أن مصر متــر بأصعب وأقســى أزمة اقتصادية في عقود، ومعدالت التدهور في قيمة العملة احمللية، وارتفاع األســعار وتدني مستوى املعيشــة واخلدمات، وقدرة الناس على الوصول لها غير مسبوقة؛ انعكاسًا لذلك ومساعدًا ممررا لــه، فإن اجملتمع في أضعف حاالتــه على اإلطالق، حيث ينفرد بالســاحة نظام ال مثيل الســتبداد­ه وتوحشــه ومتدده واســتعداد­ه املتحفز املتوثب حلشد اجلنود والبطش والسحق لــدى أي بادرة متلم ٍل، ولن أقول تعبير ًا عن الســخط في مقابل

جمهــور أعزل، ينهشــه الفقر وغالء األســعار واألمراض، غير منظٍم باملرة في بيئة جدٍب سياســية ال مثيــل لفقرها، وكل ذلك يجد أبلغ تعبير عنه في ما نراه ويشكو منه الكثيرون من مظاهر التفســخ والعنف االجتماعي. لكن من كتبوا عن ذلك التقارب، وجلهم من أنصار القومية العربية بأطيافها (على رأســها رمبا الناصري) رأوا في تلك املصافحة اعترافــًا مبكانة مصر وفتحًا مبين ًا رمبا. هم يرون في مصر كيانــ ًا متعالي ًا أزليًا عابر ًا للواقع االجتماعــ­ي والناس، يجد أبلغ تعبير عنه فــي الدولة املصرية واجليش حتديــدا، الذي ال يصير مجــرد مجموعة من الضباط الذين حتركهم املصالح، الشــخصية جدا (ورمبــا البحتة) في بيئٍة ملوثة كمــا عرفناهم وعهدناهم، وما أكده ما يتســرب من فضائحهــم هذه األيــام، وال يهم إن كان النــاس حطب احملرقة التي حترك وتغذي الدولــة املصرية املتعالية بالطاقة، فالعالقة معكوسٌة إذن حيث البشر مجرد مادٍة وخدٍم في خدمة الدولة - الكيان. قد يعترض أحدهم مذكرًا بأن كثيرًا من هؤالء الكتاب قد اعترض سابقا على تردي األوضاع االقتصادية ومعاناة الناس، ولن أختلف معه، لكن ذلك يكشــف حالة الفصام وعدم االتساق النابعة من تشوش وتشــوٍه فكري عميقني، فهم ال يلتفتون إلى طبيعة العالقة اجلدلية بني الدولــة والناس، وإمنا في دماغهم مســاران متوازيان، الدولة والناس، وإذا خيروا فسيختارون الدولة واجليش الذي يتعاملون معه كمعبر أصيل، ورمبا املعبر الوحيد، عن شــخصية هذا البلد وجامــع كل خيراته ومزاياه، والبذرة التي ينمــو منها الناس والدولة - الكيان، ولعلنا نذكر أنه في زمن اإلخوان اعترضوا رافعني شعار الدميقراطي­ة مطلبا، حتى إذا جاء السيســي على دبابته بانقالبه وعصف باحلياة السياســية والدميقراط­يــة صار الغرض األســمى هو احلفاظ على الدولة. من ناحيــٍة أخرى، فرمبا كانــت كتابتهم تلك أبلغ تعبير عن بؤس الواقع السياســي في مصر، فهم يكتبون حتت

سيف السيسي والنظام، على رقابهم، حيث االختالف واالنتقاد يوردان السجون، لكن أيا كانت الدوافع والضغوط يظل الواقع ناطقــًا بأنهم، إن لم يكونــوا جميعًا ففي اجملمــل، يصبون في خطاب النظام وســرديته وأهدافه وانحيازاته، حتى املعترض منهم فال يفعل ذلك إال حرصا علــى بقاء النظام والدولة، فليس منهم معترٌض حقيقي عليها وال طاعٌن في مشروعيتها.

في احملصلة نحن أمام أشــخاص وكتاب يعيشون ويخلقون وهما كبيرا عن كيان عظيم ودولٍة اسمها مصر، يعيشون ماضيا نسجت خيوطه بدورها من أوهام عديدة كان اختبارها الفعلي والرمــزي من ثم في هزميــة 67 ونعرف كيف كانــت نتيجتها، وإلى جانب قمع النظام فهم ال ميارســون فقط رقابة ذاتية، بل هم مؤمنون فعــال بتلك الصورة في مخيلتهم لبلٍد يكاد أن يكون عظيما لــه وزنه وثقله الفاعــل ال مجرد ثقل اجلثــة والوجود اجلغرافي، وهم ينظرون ويبنون حســاباتهم على ذلك في برج عاجي أو جزير ٍة صغير ٍة طافي ٍة على محي ٍط من الفقر والقمع. إن الواقع املصري أو الفضاء املصري األوسع شديد البؤس والفقر والضيق، شــديد الرثاثة، مرهٌق متامــًا، واالنزالق واملضي في طريق األماني الورديــة ومتتاليات صور اجملد والنصر لن يغير شــيئ ًا، متام ًا كما هي احلــال مع تصور أو انتظــار حرا ٍك ثوري مقوماتــه مفقودة والرهان عليه. واملشــكلة أن هــؤالء الكتاب واجلمهور ينتظرون شــيئًا ما، معجزًة أو انفراجًا، يغير احلال ويعدل امليزان اخملتل، دون احلاجة لفعل ثوري إما يغير النظام أو يجبــره على تقدمي تنازالت، وهو وهم األوهام. قد ننتظر إلى األبد، ونستمر مســتمرئني األوهام، إال أن التغيير ال بد أن يأتي مــن الواقع الرث متامــا، حيث تفرض أوليــة الفعل على أرض الواقع تغيرا في التصورات والقناعات وتسقط تلك األوهام.

*كاتب مصري

مشكلة الكتاب واجلمهور انتظارهم شيئًا ما، معجزًة أو انفراجا، يعدل امليزان اخملتل، دون احلاجة لفعل ثوري إما يغير النظام، أو يجبره على تقدمي تنازالت، وهو وهم األوهام

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom