هكذا تنهض الدول رياضيا

■ ال بد أوال أن نرفــع القبعة لبعض البلدان العربية التي بدأت تنهــض على أكثر من صعيــد، وخاصة في منطقة اخلليج، حيث يتصاعد االهتمام بالرياضة جنبا إلــى جنب مع االهتمــام الكبير ببقيــة مناحي احلياة، كالبنيــة التحتية والتعليم والصحــة واإلعالم. وال بد أيضا أن نحيــي منتخبات كرة القدم العربية التي تبلي حتى اآلن بالء حســنا في مباريات كأس العالم بدولة قطر كاملنتخب الســعودي واملغربي والتونســي، ومن قبلها اجلزائري في بطوالت أخرى. صحيح أن املنتخب القطري لم يلعب جيدا في مبــاراة افتتاح كأس العالم ،2022 إال أنها مجــرد كبوة جواد عابــرة، خاصة وأن املنتخب يحمل لقب «بطل آســيا». لكن في الوقت الذي نصفق فيــه للفرق العربية الناهضة فــي كرة القدم، ال بد أن نذكر بقيــة العرب بأنه من املســتحيل النهوض بالرياضة والفوز دوليا وأنتم تعانون في بقية اجملاالت، فهو ضحك على الذقــون. بعبارة أخــرى، هناك دائما تناســب طردي بني تقدم الدول تكنولوجيًا واقتصاديًا واجتماعيــ ًا وحضاريــ ًا وتقدمها رياضيــ ًا. ال ميكن أن تكون متخلفًا في كل شــيء ومتقدمًا في الرياضة، ومن يقبــع في ذيل األمم عموما ال ميكــن أن يكون في مقدمة األمم في أي شيء آخر، ألن التقدم يكون متكامال.

لقــد حاولــت األنظمــة العربية أن تلهي شــعوبها بالرياضــة كي تنســى خيباتها ونكســاتها وتخلفها، فالحقتها اخليبات والنكســات إلى أرض املالعب، ألن األنظمة املتخلفة اخلائبــة ال تنتج انتصارات رياضية. الرياضة حضارة أيها الســادة، وهــي انعكاس دقيق للشــعوب والدول، كيف لكرة القدم أن تزدهر وبعض البالد العربية كســوريا مثال تختار العبيها بالواسطة

أو على أســاس طائفي؟ حتى نقيــب الفنانني في بلدنا يتم اختياره بناء على قربه من األجهزة األمنية، وليس بناء علــى قدراته الفنية. كيف تصنع فريق كرة قدم في بــالد ليس فيها أي معايير رياضيــة أو فنية حقيقية أو قانون؟ مستحيل. ال تستطيع أن تنافس الدول املتقدمة التي تعمل بالقانون والقســطاط بفرق رياضية فاسدة كاألنظمة التي ربتها؟ عندما تشــاهد الفريق الكوري أو اليابانــي أو األملاني، أول ما يتبــادر لذهنك الصناعات والتكنولوجيا واألنظمة الكورية واليابانية واألملانية.

ال ميكــن ألي دولة في العالم أن تتطور إال شــموليا، وأعني هنــا التقدم الشــامل علــى كل األصعدة، كيف للرياضــة العربية أن تزدهر وترفع رؤوســنا عاليا في احملافل الرياضية الدولية إذا كان كل شــيء في بعض الــدول العربية متدهور ًا سياســي ًا واقتصادي ًا وثقافي ًا واجتماعي ًا وديني ًا؟

لقد أصاب نيكوالس كريســتوف املعلق في صحيفة «نيويورك تاميــز» األمريكية كبد احلقيقــة عندما قال إن: «نهضة الصــني تتجاوز امليداليــات الذهبية التي حتصدهــا عادة فــي األلعــاب األوملبيــة.. صحيح أن الصني أبهرت العالم بهذه الطفــرة الرياضية العظيمة التي أزاحــت الواليات املتحدة لتصبــح الفائز مبعظم امليداليات الذهبية، إال أن للصــني أيضا بصمة أكبر في الفنون والتجارة والعلوم والتعليم.. إن نهضة الصني في األوملبياد ممتدة إلى كافة مناحــي احلياة تقريبا». بعبارة أخرى، فــإن الريادة ال تأتي في مجال وتتخلف فــي آخر، بل هنــاك دائما رابط بني التفــوق الرياضي والتقدم العام.

بعبارة أخــرى، فإن الرياضة ميكــن أن تكون مرآة اجملتمــع، فحصاد الدول الرياضي عمومــا «لم يأت من فراغ، فالرياضة منظومة متكاملة، تشــمل قائمة طويلة من املوارد، واملعــدات واألدوات الرياضية املناســبة، والكفــاءات واخلبــرات، والتدريب اجلــاد، وجوانب نفســية منها اإلصرار والعزمية والقدرة على التحمل، والعمــل اجلماعــي، والتعلم واالســتفادة من جتارب اآلخرين، والثقافة الرياضية في اجملتمع، إلى غير ذلك، ويأتي على رأس قائمة هــذه املنظومة التخطيط اجليد واإلدارة الفعالة. وطبعا اإلرادة السياســية والطموح الوطنــي. كيف لنــا أن نطبــق املعايير املذكــورة آنفا على الرياضــة إذا كانت غائبة متامــا عن باقي مناحي احلياة في كثير من الــدول العربية. كثيرون من العرب لــم يوفــروا املعــدات واملــوارد واألدوات والكفاءات واخلبــرات والتدريــب اجلــاد والثقافــة والتخطيط اجليد واإلدارة الفعالة ألي من مؤسســاتهم التعليمية والصحية والثقافية واالقتصاديــة واالجتماعية؟ وما ينسحب على التعليم والصحة ينسحب على الرياضة. وقس على ذلك. طبعا هنا نســتثني بعض دول اخلليج التي تعمل علــى النهوض بالرياضة وبقية اجملاالت في آن معا.

الرياضة في العديد من بلداننا، ولألســف، هي بنت السياســة العربية، فإذا كانت سياســاتنا فاسدة، فال ميكن إال أن ينعكس ذلك الفساد السياسي على الرياضة والرياضيــني. فالرياضة هــي أحد ممتلــكات النظام الشــمولي العربي، مثلها في ذلك مثل مصلحة الصرف الصحي والفالحة وجمع الزبالة والصناعة والســباكة والطبابة والثقافة والفن والعلــم والتجارة والقضاء والتعليــم وبقية القطاعات. وال عجــب مثال أن من بني

ألقــاب مــا يســمى بالرئيس السوري لقب «راعي الرياضة والرياضيني». فحتى الرياضة التــي تعتمد بالضــرورة على القدرات اجلســدية هي فــي بعض الــدول حتت إمرة النظام الرسمي وأجهزة مخابراته.

ال ميكن لرياضيينا أن يتفوقوا ال داخليًا وال خارجيًا إذا كانــت الرياضــة عندنــا تــدار بعقلية الواســطة واحملســوبية واالنتمــاءات الضيقة في بلــدان عدة. فاملؤسسة الرياضية في الكثير من البلدان العربية هي مؤسسة حزبية أو سلطوية أو شللية. وال عجب أن ترى على رأس بعض املؤسسات الرياضية العربية أشخاصا مؤهلهم الوحيد أنهم قريبون من الســلطة أو متحزبون أو مخبرون، ويفهمون بالرياضة كما أفهم أنا باالنشطار النووي مــا بعد احلداثي. فكيــف للرياضة العربية أن تزدهر إذا كانت في بعض البلدان مسيســة من رأســها حتى أخمص قدميهــا ومدارة بعقلية قبلية أو عائلية أو طائفية أو حزبية أو حتى عشائرية قروسطية؟

حتية للدول التي تســتثمر في الرياضــة جنبا إلى جنب مع االســتثمار في بقية اجملــاالت وخاصة دولة قطر التي جنحت في اســتضافة أعظــم حدث رياضي عاملــي أال وهي بطولة كأس العالــم، لكن يجب أال ننكر أن معظم العرب اآلخرين مهزومون سياسي ًا واقتصادي ًا ورياضيا. وبالتالي ال رياضــة مزدهرة من دون ريادة حضارية شاملة.

٭ 2022

Volume 34 - Issue 10818 Saturday 26 November