Al-Quds Al-Arabi

نحب بيروت رغم كل شيء

غادة السمان

-

أرســلت لي إحدى الصديقات من بيروت قصاصة من جريدة «األنوار» عمرهــا أكثر مــن عقديــن )2002ـ12ـ14( وهي مقالة للدكتور جوزف عســاف حول روايتي «سهرة تنكرية للموتى»، ومما جاء فيها: «قصة الكاتبة والروائية الســورية غادة السمان (مع بيروت) قدمية، وككل عشق قدمي يستمر زاخر ًا وقوي ًا وثابت ًا. وذلك الكالم الذي نشر قبل عقدين من الزمن ما زال صحيحًا. وعلى الرغم من إقامتي منذ ثالثة عقود ونيف في بيت باريسي جميل، يطل على برج إيفل الشهير ونهر السني، ما زلت أفتقد بيتي البيروتي وأحن إلى شرب القهوة على شرفتي املطلة على البحر.

ملاذا؟

للمرة األولى في حياتي الباريســي­ة لــم أذهب لزيارة بيروت احلبيبة منذ ثالثة أعوام، وهو ما لم يحدث لي من قبل، حتى بعد وفاة زوجــي البيروتي األصيل املرحــوم د. داعوق. ملاذا؟ ألنني ببساطة ال أســتطيع أن أحتمل انقطاع الكهرباء الدائم باستثناء ســاعة في اليوم! ووداعــًا للبــراد، ومكيف الهــواء، واملصعد والتلفزيون.. أعرف. ســيقال لي: ثمة مولدات كهربائية، لكنني جربتها وأعــرف متاعبها، فهــي حني ال تتعطل عــن العمل كأي ماكينة نفتقر إلى املــازوت الذي يغذيها، وغير ذلك من التفاصيل التي أعفي القارئ العربي منها، وبالذات الذي يعيش في مدن ما زالت تنعم بالكهرباء.

مآسي لبنان تتكاثر

لم تعد بيروت «ســت الدنيا» كما لقبها نــزار قباني في إحدى قصائــده، وكما لقــب رئيــس جمهوريتها برئيــس «جمهورية العصافير» حــني منحه رئيس جمهوريتها اجلنســية اللبنانية. فلبنان لم يعد كذلك، وصار جمهوريــة الفقر واألحزان. ولكنني ما زلت أحــب لبنان في ضائقتــه كما أحببته (أيــام العز). هذا الوطن ال يستحق ما يلحق به من (قصاص) وأذى... والتفاصيل تطول! وأضحــى بعض مودعي أموالهم فــي البنوك يهاجمونها كل على طريقته الســتعادة ودائعهم، فاملرء يضع ماله في البنك خوفا عليه من الســرقة، ولكن ماذا يحدث له إذا حتول البنك إلى سارق؟ الكهرباء صارت كلمة تذكارية في لبنان... وصار كل قادر على العمل خــارج لبنان يهرب منه إلى مكان صالح للحياة وفيه اخلدمات الالزمة للمواطن.

ولكنني ما زلت أحن لبيروت

رغم كل شــيء، أخجل ألنني لم أزر بيروت منذ أعوام ولم أكن أشعر بالوحشة حني أعود إلى البيت وحدي (بعد رحيل زوجي) وأغلق الباب خلفي، ألن أبطال قصصي كانوا يخرجون من كتبي ويحيطون بي مرحبني وأحياء، ورمبــا أكثر حياة من الناس في الشوارع.

ما أكاد أصل إلى بيروت حتى أغادر البيت للمشي على شاطئ البحر ألعتــذر منه ألنني ســطرت ذات يوم كتابــي «ال بحر في بيــروت» ولكن ال بحر في باريس أيضا. وحــني أعود إلى البيت يغلبنــي الصحو وأعــي حقيقة بيروت هذه األيام التي يســعى كثيرون للهجــرة منها... فلمــاذا ال تعود بيــروت مكانًا صاحلًا للحياة واحلب وتقبل احلنني إليها من كل من غادرها؟

السياسة ليست مهنتي

على الرغم من انعدام كتاباتي السياسية لكنني أعتقد أنه ال بد من عقاب بعض املسؤولني عن حتول لبنان من سويسرا الشرق كما كان البعض يلقبها، إلى بلد فقير... يضطر فيه من أودع نقودا في أحد البنوك إلى التهديد بالعنف ال ليسرق البنك بل ليستعيد ماله من البنك السارق!

أعتقد أن الوقت قد حان حملاكمة الذين حولوا لبنان من بلد من «العالم األول» إلى «العالم الثالــث»... ولكن ال حياة ملن تنادي. وحتى حلظة كتابة هذه الســطور، لــم يحصل لبنان على رئيس جديــد للجمهورية، وغيــر ذلك من االنتخابــ­ات البرملانية، فمن يحاول جتميد لبنان وامتصاص احلياة منه لكي يظل على حاله من البؤس والفقر؟

ال بحر في باريس أيضا. وحني أعود إلى البيت يغلبني الصحو وأعي أنه من الطريف أنني حني أفكــر ببيروت بكثير من احلنني أتذكر أكشــاك باعة الصحــف وبينهم من يعرضهــا على أرصفة شــارع احلمراء، أما اليوم فقد غابوا كما بعض مكتبات الشــارع (احلمراء) حيث املقاهي التي كان يجلس فيها األدباء والسياح... أتذكر بحنني مقاهي «الهورس شــو» و»الوميبي» قرب مســرح البيكاديلـ­ـي وســواهما كثر.. ثم إن بعــض الصحف توقفت عن الصدور، لألســف، في بيروت التي كانت عاصمتها، كما توقفت بعض دور النشر عن إصدار الكتب بغزارة كما من زمان.

زماننا ضد بيروت ولبنــان، ولكنني ما زلت أحب بيروت، كما العاشــق الذي يزداد حبا حلبيبته املريضــة... وبيروت مريضة بأكثــر من علة ال يجهلها أحد، فمتــى يخجل الذين يرضون بذلك إكراما ملصاحلهم وال يعني لهم الشــعب اللبنانــي أكثر من بقرة حلوب! ولكن التاريخ علمنــا أن أوضاعًا كهذه ال ميكن أن تدوم.. واملسؤول عنها سيلقى عقاب الشعب، وهو عقاب عادل مهما كان قاسيا، فمتى ينفجر الناس كقنبلة أحزان؟

إضرام النار في ذاكرتي!

ما من مغتــرب إال ويتمنــى العودة إلى الوطــن على أجنحة احلنني.

لكن الغربة تعلم املرء دروســا كثيرة، منها احلذر من أن يركب القلب العقل ويلغي احلنــني التفكير الســليم.. ال أريد أن أقول: وداعــا يا لبنان احلبيــب، بل أمتنى أن يلقــى الذين حولوه إلى مزرعة فقر يهاجر النــاس منها، أمتنى أن يلقــوا العقاب العادل على جرميــة محاولة اغتيال وطــن عربي جميل اســمه لبنان. وعلى الرغــم من كل ما كتبتــه اليوم في حلظــة حزن وغضب، أمتنى أن يغفر لي القارئ إذا علــم أنني ركبت أول طائرة وعدت إلى بيروت.. فالعشاق ال يخلون من اجلنون.. وأنا عاشقة ملدينة بيروت التي عشــت فيها طويال وأجنبت ابني فيها وعشقت فيها، وكتبت فيها ومنحت أبجديتي سحر الوحي.. فهل أعود؟

أم أمــوت في الغربة مهما كانت جميلــة كمدينة باريس، حيث أعيش من زمان، لكنها الغربة!

ليتني أســتطيع إضرام النار في ذاكرتي وأنســى ما كان من غرامي بلبنان.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom