Al-Quds Al-Arabi

ليبيا: معركة كسر عظم بين النائب العام ومسؤولين ُمتهمين بالفساد

-

العبارة األكثر تداوال في خطابات املـسـؤولـ­ني السياسيني الليبيني هذه األيـام، هي املصاحلة الوطنية، واســتــطـ­ـرادا إيــجــاد حــل توافقي للصراع الــدائــر منذ الـعـام .2014 وتتبنى هذا املوقف أيضا األطـراف اخلارجية املتداخلة في امللف الليبي، إذ جددت اجلزائر على لسان رئيسها، دعــوتــهـ­ـا إليــجــاد تـسـويـة لـأزمـة الليبية في إطــار حل توافقي ليبي ليبي، وإجنــاز استحقاق املصاحلة الوطنية الشاملة، مبـا يــؤدي إلى تنظيم االنتخابات، «التي ستمكن الشعب الليبي من اختيار ممثليه على مستوى املؤسسات السياسية». أمــا فـي الـداخـل فكانت املصاحلة وما يتبعها من ضــرورة عقد مؤمتر جامع، امللف الرئيسي الذي ناقشه عـضـو اجملــلــس الــرئــاس­ــي موسى الكوني، قبل أيام مع ممثلي املكونات االجتماعية في العاصمة طرابلس. وأفيد أن اجملتمعني ناقشوا مسألة إنهاء املراحل االنتقالية، التي أربكت املشهد السياسي، على ما جاء في بيان للمجلس الرئاسي. ال بل تطرقت املناقشات إلى محاور املؤمتر اجلامع للمصاحلة، الذي لم يحدد ميقاته.

كما أفيد أن اجلانبني اتفقا في مـوضـوع الهيكل اإلداري للدولة، على إعادة العمل بنظام احملافظات، وعـــزوا هــذا اخل ـي ـار إلــى م ـا ل ـه من «أهمية ومساهمة في استقرار البلد،

واالبتعاد عن املركزية التي تعيق بناء الدولة» وفق ما ورد في البيان الرئاسي. ومن طبرق (شرق) حض سفراء أملانيا وفرنسا وبريطانيا أيضا على دعم جهود املصاحلة. لكن الطريق إلى املؤمتر الوطني اجلامع ليست مفروشة بالورود، فقد أكدت املستشارة السابقة لأمني العام لــأمم املتحدة فـي ليبيا ستيفاني وليامز، أن قانون العدالة االنتقالية ما زال قيد التعديل، بينما يستمر عمل بعثة تقصي احلقائق واحملكمة اجلنائية الـدولـيـة، بالتحقيق في االنتهاكات وجرائم احلرب احملتملة. واتـهـمـت ولـيـامـز الــلــواء املتقاعد خليفة حفتر بأنه كـان وراء توقف املسار الدستوري، عندما أمر قواته بالزحف على العاصمة طرابلس في نيسان/ابريل ،2019 مجهضا بذلك املؤمتر الوطني اجلامع الذي كـــان ُمـــقـــرر­ا عــقــُده فــي غــدامــس. وتــكــررت عـبـارة «املـصـاحلـ­ة» على لـسـان املبعوث اإليـطـالـ­ي اخلـاص إلـى ليبيا، نيكوال أورالنـــد­و، الذي أجرى أخيرا، محادثات مع األطراف السياسية الليبية، بالتنسيق مع الشركاء األوروبيني، وخاصة فرنسا وأملـانـيـ­ا. وأكــد أورالنــــ­دو أن رومـا تدعم الوصول إلى «توافق سياسي واسـع» يضمن لليبيا حكومة ميكن أن تقود إلى انتخابات حرة وشفافة، تفرز مؤسسات شرعية. وترتدي تصريحات املوفد اإليطالي أهمية خاصة لكون رومـا هي أبـرز حليف للواليات املتحدة في امللف الليبي،

وهو ما تسبب لها بعدة احتكاكات مع غرميتها فرنسا، التي تدعم اللواء املتقاعد حفتر، وتتحاشى التعامل مع احلكومة املعترف بها دوليا في طرابلس.

ويــقــودن­ــا اســتــخــ­دام عـبـارتـي املـصـاحلـ­ة واملــؤمتـ­ـر اجلــامــع، إلى احلديث عن مبادرة سياسية جديدة، تقودها 120 شخصية ليبية، من مــشــارب فـكـريـة وآفــــاق سياسية مختلفة، بينهم أعضاء في مجلسي النواب والدولة وحقوقيون وبعض القيادات القبلية، الذين عبروا عن رفضهم الشديد الستمرار الوضع الراهن، الـذي ال تستفيد منه سوى «اجلهات التي تريد خطف العملية االنتخابية» مـن دون تسمية تلك اجلهات. وتعتبر هذه املبادرة مقدمة حلراك سيعمل على إرساء خط ثالث يتباين مـع خليفة حفتر وحكومة الوحدة الوطنية في آن معا، هدفه األول، على ما يقول أصحاب املبادرة في بيانهم، «محاولة إنقاذ البالد من االنـزالق خملاطر التقسيم». وفي السياق اعتبرت الشخصيات املوقعة على البيان أن الفرصة لم تعط لليبيني، على امتداد السنوات الثماني األخيرة الختيار قياداتهم السياسية، فكانت النتيجة تعاقب خمس حكومات وأربــــع حــــروب (داخــلــيـ­ـة) ذهـب ضحيتها عشرة آالف ليبي، وأكدت أن اتفاقات تقاسم السلطة، سواء في منتجع الصخيرات باملغرب أم في جنيف، أخفقت في حتقيق الغاية من عقدها. وكان الهدف من وراء تلك االتفاقات توحيد املؤسسات وإجراء االنتخابات املوعودة. وانطالقا من هذا اإلخفاق، اقترحت الشخصيات الـــ021 اعتماد اإلعــالن الدستوري، الــــذي وضــعــه اجملــلــس الـوطـنـي االنتقالي، بعد اإلطـاحـة بالنظام السابق في 2011 والذي أجريت على أساسه انتخابات 2012 إلى جانب اعتماد قانون االنتخابات الرقم 4 لسنة 2012 أيضا، بوصفهما أساسا دستوريا لالنتخابات وإطارا قانونيا لها. ولم يكن مستغربا أن املوقعني على املبادرة أكدوا على ضرورة طلب املـسـاعـد­ة الـدولـيـة لـ إلش ـراف على االنتخابات، وذلك باملعايير املحددة في ميثاق األمم املتحدة وقراراتها في هذا الشأن. وميكن أن يفسر ذلك بأن ليبيا مازالت خاضعة ألحكام الفصل السابع من ميثاق األمم املتحدة.

وأظهرت تقارير أممية أن األوضاع االجتماعية والتربوية في ليبيا، ما انفكت تتدهور، مخلفة جيال محروما من أساسيات التكوين العلمي. كما أظهرت أن املؤسسات االجتماعية، وخاصة منها التربوية، تعاني من طول االهمال وغياب الصيانة على مدى السنوات األخيرة، ما استوجب وضــع خطة شاملة إلنـشـاء 1500 مدرسة جـديـدة، ستكون بديال من مدارس الصفيح القائمة حاليا، والتي يعتبر بقاؤها إلى اليوم وصمة عار في جبني من تـداولـوا على احلكم، طيلة السنوات العشر األخيرة. ومع إمساك النائب العام الصديق الصور مبلفات فساد عــدة، ووضــع بعض املشتبه في ضلوعهم بتلك امللفات في السجن االحتياطي، يتأكد أن احلملة على الفساد ستحمل مفاجآت، وأن رؤوسا أخرى أينعت. إال أن املالحقات القضائية ما زالت مقتصرة على صغار الفاسدين، وغالبيتهم موظفون في مصارف جتارية، ولم تشمل رئيس الوزراء وأعضاء حكومته، بالرغم من أن تقارير الرقابة أدانتهم باألسماء. وآخر ملف كشف النقاب عنه مجلس النواب أخيرا، يتعلق بتصرف حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة بحصة ليبيا في مجموعة «هيس» األمريكية، وهي احلصة التي بيعت جملموعتي «توتال» الفرنسية و«كونكوفليس» األمريكية. وأفاد املتحدث باسم مجلس النواب،

أن اجمللس قــرر، فـي اجللسة التي عقدها أخـيـرا فـي بـنـغـازي، رفض التخلي عـن حصة ليبيا وتكليف اللجنة التشريعية فــي اجملـلـس، بإعداد مخاطبة للنائب العام، في شــأن الـتـصـرف بتلك احلـصـة من أسهم اجملموعة األمريكية، معتبرا ذلك إهــدارا للمال العام، خاصة أن هناك قرارا صادرا عن محكمة الزاوية (شمال غــرب) يحظر على السلطة التنفيذية إجـراء مثل عمليات البيع تلك. إال أن الدبيبة، املـوجـود في موقعه احلالي بفضل االتفاق بني القوى الكبرى املـؤثـرة في املشهد الليبي، منذ شباط/فبراير املاضي، ال يبدو مباليا لتلك االتهامات. وفي سياق ملف الفساد أيضا، لوحظ أن مجلس النواب قـرر، في جلسته الـثـالثـا­ء قبل املــاضــي، إقـالـة علي احلبري من منصب محافظ مصرف ليبيا املركزي املكلف، وإنهاء عضويته ورئاسته للجنتي إعـــادة استقرار ببنغازي ودرنة، وسمى اجمللس في مكانه مرعي مفتاح رحيل البرعصي. وعلل البرملان قراره بوجود شبهات فساد وتـزويـر مستندات ووثائق رسمية والكسب غير املشروع.

استهداف النائب العام

أكثر من ذلـك، حـذر تقرير جديد الـسـلـطـا­ت الليبية مــن أن تنامي الصراعات الداخلية في البلد، ساهم في منو اقتصادات اخملـدرات. وأبرز التقرير الصادر عن «املركز األوروبي لرصد اخملـدرات ومكافحة اإلدمـان» أن هذا العمل ال يقتصر على املناطق اخلــارجــ­ة عــن سـيـطـرة احلـكـومـة، وإمنـا «يشمل أيضا بعض اجلهات الفاعلة في الدولة والنخب السياسية والتجارية». وأكد املركز في تقريره بعنوان «أسواق اخملدرات في سياسة اجلوار األوروبية بلدان اجلنوب»، أن الصراع طويل األمد سّهل توُسع تهريب اخملـدرات، ما قد يزيد الطلب على املواد غير املشروعة.

ومــع أهمية مكافحة التهريب وجتــارة اخملـــدرا­ت واألسلحة، فإن احلملة التي شنها متنفذون على ال ـن ـائ ـب الــعــام ال ـص ـدي ـق ال ـص ـور، للمطالبة بعزله تنطوي على مخاطر كبيرة، أبـرزهـا تهديد مـن يحارب الفساد مبعاقبته على حزمه في إنفاذ القانون، وترسيخ تقاليد االفالت من العقاب. وقد يكون خلف احلملة على الصور، رئيس احلكومة الدبيبة بعد اعتراض الصور على بيع حصة ليبيا في مجموعة «هيس» النفطية األمريكية، كما أسلفنا. وكان مجلس النواب كلف جلنته التشريعية بإعداد مذكرة لشرح أسباب اعتراضه على الصفقة باعتبارها «مخالفة للقانون وإهدارا للمال العام». والقى االجتاه إلى عزل النائب العام رفضا واسعا في األوساط القضائية والسياسية، إذ قام موظفو النيابة العامة في مدن عـدة من بينها مصراتة والبيضاء وبني وليد، وقفات احتجاجية مبقر النيابة، استنكروا فيها الطعن املقدم

من عضو اجمللس األعلى للدولة رئيسه السابق عبد الرحمن السويحلي، والذي طعن في قرار مجلس النواب تكليف املستشار الصديق الصور مهام النائب العام في .2021 وتأتي احلملة على النائب العام، في أعقاب الكشف عن عشرات ملفات الفساد وتسليط األضـــواء عليها، وحبس كثير من املشتبه بهم في تلك القضايا، بعدما كانوا ينعمون باالفالت من العقاب. واعتبر احملتجون اعتراض السويحلي «تـعـديـا على السلطة القضائية» مشيدين بـالـدور الذي يقوم بـه النائب الـعـام الـصـور من أجل محاربة الفساد. وبات واضحا أن النائب العام لن يتوقف عند تلك التحقيقات، وإمنـــا سيسعى إلى ضـمـان الشفافية واملــســا­ءلــة عن كيفية إدارة عائدات النفط، ذلك امللف املتشعب وامللغم مبلفات الفساد، التي قد تطال شخصيات من الوزن الثقيل. كما تـتـردد فـي األوســـاط السياسية الليبية تـسـاؤالت حول خلفيات قـرار مجلس النواب إقالة نائب محافظ املصرف املركزي علي احلبري، وتكليف مرعي البرعصي مبهامه، إذ هناك من رأى أنه تغيير طبيعي بعد سنوات من تولي احلبري هذا املنصب، فيما ينطلق آخرون من تزامن قرار العزل مع إنهاء عضوية احلبري في جلنتي إعــادة استقرار بنغازي ودرنـــة، اللتني يرأسهما، لترجيح وجــود ملف فساد. وكان النائب العام أعلن أنه أمر خالل الشهر اجلــاري بحبس عدد من املسؤولني احتياطيا في قضايا «تبدأ بالتجاوز وتنتهي بالتزوير والتحايل». ومن بني هـؤالء املسؤول املالي السابق بالشركة العامة خلدمات النظافة والقائم مبهام املراقب املالي في بعثة ليبيا لدى جمهورية رواندا. كما حبس املسؤول الصحي في بعثة ليبيا لدى أوكرانيا لالشتباه باختالسه مبالغ كبيرة مـن النقد األجنبي املعهود إليه حفظه. وأمر النائب العام أيضا بحبس املــديــر التنفيذي السابق لشركة اخلـطـوط اجلـويـة الليبية إلسـنـاده أحـد العقود إلـى ابنه كي يتحصل األخير على منافع مادية ال جتيزها التشريعات بحسب ما قال املستشار الصور. كما شملت املالحقة القضائية القائم بأعمال بعثة ليبيا لدى جمهورية جنوب أفريقيا لصرف مرتبات ألشخاص انقطعت صلتهم بإطار وظائف البعثة، بحسب النيابة العامة. واألرجــح أن ليبيا ستشهد معركة كسر عظم بني النائب العام ومـن خاصموه بسبب إقدامه على شن أوســع حملة ملكافحة الفساد وإنهاء االفالت من العقاب في ليبيا منذ سقوط النظام السابق. ومن الصعب التكهن مبآالت تلك املعركة، ألن لـكـل فــريــق وعــــاء اجتماعيا وسياسيا يسنده، إن كان من مكونات اجملتمع املدني، الذي سيناصر الصور بـقـوة، أم مـن كبار املـسـؤولـ­ني في الدولة واإلدارة، الذين سيعمل كثير منهم على إطفاء احلريق الذي أشعله النائب العام بشتى الوسائل.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom