Al-Quds Al-Arabi

نداء أوجالن: مآالت أثر بعد عين

- صبحي حديدي

ال يستوي، بالطبع، أن يكون «حزب العمال الكردستاني»، الـ ،PKK هو اآلمر بتنفيذ العملية اإلرهابية في قلب إسطنبول، أو أن يكون أحد جيوب التنظيم قد بادر إليها مبعزل عن ستراتيجية استهداف عليا جديدة ضّد أهداف مدنية تركية، أو أن تصّح على أّي نحو فرضيات تقول إّن التفجير وأدوات تنفيذه نتاج نظرية مؤامرة من جانب أجهزة استخبارية داخل تركيا أو في محيطها اإلقليمي. الفوارق هنا تتجاوز صحيح املنطق من عدمه، في مستوى أّول، لتعبر مباشرة إلى مستوى ثاٍن أمنت منطقيًا وأكثر استقرارا في شبكة االعتبارات املعقدة التي تكتنف حاضر احلزب، غير املنفصل عن ماضيه القريب أو البعيد.

فهل انقضت سنوات كثيرة على ما ُسّمي «دعوة تاريخية» أطلقها عبد الـلـه أوجــــالن، الـزعـيـم الـتـاريـخ­ـي لـ»العمال الكردستاني» من سجنه في جزيرة إمرالي؛ وُتلي نّصها على نحو طقسي واحتفالي أمام عشرات اآلالف من األكراد األتراك غّص بهم منتزه نوروز في مدينة ديار بكر؟ كال، بالطبع، إْذ ال يزيد عمر ذلك النداء عن 9 سنوات؛ تبدلت خاللها أحول التنظيم ومساحات انتشاره العسكري وهيمنته السياسية في كل من تركيا وسوريا والعراق وإيــران، من دون أن تتبدل جوهريا وتناسبيا تكتيكات احلزب وقسط غير قليل من ستراتيجيات­ه.

ففي مدينة الرقة السورية، بعد أن حتـررت من اإلرهـاب الداعشي؛ وكذلك في جبال قنديل شمال العراق، حيث تتمركز نواة القيادات امليدانية للحزب؛ من اليسير أن يالحظ املراقب غياب ترجمة نـداء أوجــالن على أرض الـواقـع، خاصة حني تكون أبرز صياغاته هذه املناشدة، على سبيل املثال: «فلتسكت املدافع، ولتنطق األفكار». يسير، أيضا، أن يستخلص املرء ذاته عقم البحث عن منعكسات واقعية ملا متخضت عنه مفاوضات جزيرة إمرالي بني السلطات التركية وأوجالن من خريطة طريق تتلمس حل املسألة الكردية في تركيا، وما اقترن بها من تدابير غير مسبوقة؛ مثل إلقاء السالح، وانسحاب قرابة 2000 مقاتل من تركيا إلى جبال قنديل، وإحقاق حقوق األكراد على نحو ملموس ونوعي...

وليس إفراطا في حتكيم املنطق البارد، التاريخي والسياسي على حّد سواء، أن كّل وأّي اتفاق تعاقدي بني األكراد وأنظمة الشرق األوسـط، أو حتى القوى العظمى اإلقليمية والدولية ذات الصلة، قابل ألن يقرأ على هدي واقعة فارقة في تاريخ الـ PKK أقرب إلى محك قياسي: سنة 1998 حني رضخ نظام حافظ األسد إلى الضغوط التركية وأبعد أوجالن خارج سوريا، بعد إقامة في كنف النظام امتدت 18 سنة. يومها غادر أوجالن إلى موسكو، قبيل الذهاب مبحض إرادته إلى العاصمة اإليطالية روما، حيث أطلق تصريحه الشهير: «الـ PKK حزب ولد في تركيا، وحتول إلى منظمة في سوريا، وهو في طريقه ملغادرة موسكو... من أجل تأسيس دولة».

ولقد بدا، يومذاك، أن هذا الزعيم احلالم، الثائر، اللينيني، الغيفاري، و«يسوع األكــراد» كما أسمته صحيفة «لوموند» الفرنسية ذات مّرة... تناسى احلكمة الكردية األعرقً التي تقول إن اجلبال وحدها صديقة الكردي؛ ولعله تغافل عامدا عن حقيقة أّن تلك اجلبال تنفّك بني احلني واآلخر عن الصداقة، فتنقلب إلى مقابر جماعية ألكراد قتلى على أيدي أعدائهم، أو جيرانهم، أو أبناء بلدهم، أو أبناء عمومتهم... سواء بسواء. وحني متكنت االستخبارا­ت التركية من اإليقاع به، في نيروبي، فإنها لم تنجح لوال مساعدة مباشرة من االستخبارا­ت اإلسرائيلي­ة، واستخبارات غربية وشرقية وأفريقية أخرى.

«نضالنا لم يكن ضّد أّي عرق أو دين أو جماعة. نضالنا كان ضّد كّل أنواع الضغط والقهر. ونحن اليوم نستفيق على شرق أوسط جديد، وتركيا جديدة، ومستقبل جديد»، قال أوجالن في ندائه التاريخي ذاك؛ الذي من احملزن أن مآالته، اليوم، تبدو أقرب إلى أثر بعد عني!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom