Al-Quds Al-Arabi

مجموعة التونسية هدى الدّغاري «يا كّلي الناقص يا فداحتي الكاملة» حّب وِشعر يتداخالن بلغة الطبيعة

-

في اجملتمعات التي متتد فيها السيطرة الذكورية بقّوة تطبعها بالثبات، كما لو كان الثبات حقيقَتها، مثل اجملتمعات العربية؛ يعتاد قراء الشعر في عملية معاجلة احلب على منحى اجتاه الكتابة من الرجل إلى املرأة، وإلى درجة أن يلجأ الشاعر الذكر في ظل حترمي هذا على النساء، إلى لبس قناع املرأة والتعبير عن مشاعرها جتاه الرجل، كما فعل الشاعر نزار قباني في بعض قصائده، ابتداًء بالتغزل وصوال إلى املمارسة اجلنسية. ما عدا حاالت استثنائية مثل ولادة بنت املستكفي التي تثير شهوة هذه اجملتمعات كما لو كانت بورنوغرافي­ا، أكثر منها تعبيرًا إيروتيكيًا أقرب إلى الطبيعي وكان موجودا في مجتمعها األندلسي الذي اعتبره أراغـون فـردوس العالم املفقود، جملرد قولها «أعطي قبلتي من يشتهيها».

الـشـاعـرة التونسية هــدى الــدغــار­ي تكسر في مجموعتها الشعرية «يـا كّلي الناقص يا َفداحتي الكاملة» أحادية اجتـاه التعبير عن احلـب، فتطلق ملشاعرها العنان في احلديث عن تأجج براكني أنوثتها أمام حاالت مواقف الرجل التي متر بسكونه واعتياده احملبط لها، وتصل حد الشعور مبتعة اضطهادها في احلـب، وتوصل تعبيرها إلى درجـة وصف مشاعر متعةّ تذّللها بهذا االضطهاد الراقص على صراط املازوخية ــ السادية، والوصول إلى حالة اكتئاب توشك فيها أن تكون «سيلفيا بالث»، الكاتبة الشهيرة املنتحرة في الثالثني، «لوال يُدَك املمدودة لي وأنا على حاّفة الهّوة». ولكْن! ال يغّرَّن القارَئ ظاهُر هذا التذّلل في شعٍر قريب من «الكوانتومي­ة»، يصّور تكوينه بعدستي كاميرا متعاكستني، ويرقص على إيقاع املتضادات، ويتحدث لغة الطبيعة؛ فعنوان قصيدة «أال يح ّق لهذه الكلبة قلي ٌل من الود؟» يخل ُق شعور ًا متضاد ًا مع َنّص التعبير عن متعة امرأة لديها مشاعر مازوخية بالتعنيف والرضوخ، كما أن النص نفسه يطلق من داخله شرارات تثير استياء القارئ إلى جانب متعته في أن يكون سيد املرأة، من هكذا سيادة: «أال يحُّق لهذه الكلبة قليٌل من الوِّد؟ أنا ال أمد براثني نحوك، أنا راكعة حتت قدميك، فقط تكفيني دعسة منك ولو بقوة ألنزوي حتت ظل التينة، أالعب ذيلي، اقلب علي صحن احلليب وفتات اخلبز إن شئت، افتح في وجهي خرطوم املاء الساخن البـأس، جحري الذي هيأَته لي أفرْغه فوق رأسي وال تباِل ببذاءات كالمك، أحب وقعها على ظهري، ذاك الذي قسمه حبك». وكل هذا في ظل إثـارة إحساس القارئ باحليرة جتاه مالئكية وشيطانية وتقّلبات «يا من يسّمونه احلب» في خطاب معاجلة محمود درويش له، وفي مترير متع ومفارقات احلب من دون تدوير جلد األنوثة إلى جلد الذكورية، واحترام احلب باحترام الرجل، وتلطيخ جدران متع احلب كيفما كان بألوان بتالت األزهار بقدر الرائحة البرية لتنب األحصنة.

مجموعة حافلة باجملازات الشعرية املغوية للدخول

في الذات الكتشافها واكتشاف اآلخر منها ومن ذاته؛ هي مجموعة جيب في حجمها، أقرب إلى تسميتها «مجموعة قلب»، يضُعها القارئ مالِمسًة لصدره في املترو أو على كرسي احلديقة أو على سريره قبل النوم، حيث ال تراوده الكوابيس. فقصائدها الواحدة واخلمسون، تـتـراوح بني القصيرة بأربعة أسطر فقط والقصيرة بصفحة اجليب، ومتوسطة الطول، وتتوالى قصائَد نثٍر مميزًة بنثر السطر فيما عدا اثنتني بنهج قصيدة القطعة، وتتميز باجلملة القصيرة املرشوقة لونًا تتبعها جملٌة تنرشق بلون آخر وجمٌل بعدها بألوان مختلفة، لكنها في النهاية تصنع لوحة متناغمة تربطها ضمن هذا التوالي جملٌة مفاِجئة تلملم تشتت العني في ألوان اجلمل، وتوجهها إلى القلب غالبا والعقل كذلك للتفكر في «من يسمونه الشعر»، والتفكر في قصيدة اللحظة املمتدة في اجتاهني أو اللوحة املتداخلة األلوان أو اللقطة التي ال تعتمد على إدهاش الصفعة بقدر إدهاش مالمسة اخلد، وبالقصر الطويل في كل األحوال.

وتبدأ الدّغاري قصائدها في تناغم احلّب والشعر بالقصيدة التي يدخل فيها الطني احملبذ في األدب عبر تاريخ اإلنسان وعالقته بآلهته، كمرتكز للخلق، بيولوجيًا وإبداعيًا كمجاز لكّل إبداع، مع عنوان «طني» الذي يتو ّضح مباشر ًة أنه خل ٌق للقصيدة، حيث: «أرغب في عجن حروفي في طني مبلل/ أدعكها بقدمي،/ أمتّرغ فيها:/ اخرجي يالغتي/ على هيئة رّبة خصب».

ويالحظ القارئ منذ البداية أسلوب اإليجاز الشديد الذي تسلكه الدغاري، في اقتصار الدعك والتمرغ وصنع اإلنسان باإلبداع، على إخراج اللغة ربة خصب، من دون املرور بغنى دعك العنب بأقدام الفتيات في مواسم صنع النبيذ على شواطئ املتوسط، حيث تولد ربـات اخلصب، كما يفعل شعراء آخـرون مبجازات إبداعهم.

وتسلك الدغاري مثل معظم شعراء ما بعد احلداثة، وما بعد السوريالية التي بدأت تأخذ أبعاد الكوانتومي­ة في الشعر، أسلوب استخدام حلظات احلياة اليومية وخلق تناغمها مع ما تأخذ القصيدة من أغـراض وأبعاد، مثل امتداد اجملـازات بالبرية والذئبية التي تسير في دروبها، كما تفعل في قصيدة «مثل قتل رحيٍم»: «قرقعة في قلبي،/ صوٌت مَدٍّو في أحشائي،/ اصِطكاُك أسناني في يوٍم شتوٍّي،/ لساني وعقدُته الكاملة:/ ماسُح أحذيٍة على رصيف مهجوٍر/ ناعٌم هذا احلّب/ مثل قتل رحيم:/ خدٌر خفيٌف يليه/ سكوُن جسد».

في كلها الناقص، وفداحتها الكاملة، تمحور الدغاري قصائدها على احلب، معبرا عنه بانكشاف الداخل، الذي تصرح عنه شعرا في قصائدها، وميكن للقارئ تلّمس بعض أشـكـال هـذا احلــّب وأبـعـاده وحتوالته في معاجلة عالقة املرأة بالرجل، من جهة شغفها به، وطلب رضاه كما «شمٍس مطّلة على أرض جليدية» مع اللعب على املتناقضات، والتضاد بني حّب الرجل الرتيب املرسوم املعَّطر، وملل املرأة منه، وبني رغبتها ودعوتها إلى أن ميـارَس بّريته عليها بجسد املــرأة الوحشية املشتهية لفحولة الرجل، برضوخ األنثى، داخـل «اسطبلك في آخـر الليل»، واستنهاض سكون واعتيادية الرجل «املمزق بني حبال الزمن» أن يحرك رتابته بـ «قل لروحك الهائمة: احلب مالمسة لأبدية». كل هذا مع معاجلة غرق املرأة إلى حّد املرض بحّب املضطِهد املعِّنف لها، وخسرانها وخسرانه في النهاية، كما في القصيدة التي تنهج أسلوب القطعة بإيحاء الندم ومراجعة النفس في االختيار أمام االحتماالت التي يوفرها الكون «املشي بال هدى» حيث: «كان من املمكن أن تلقي بنفسك في البحر في يوم شتوي دون أن تنسى ارتداء معطفك حتى ال ترتعش حبيبتك املعلقة في عروة قلبك... كأن تثَق بدمك الذي يجري في دمها، بحزٍن كنَته له صوت موخٌز في قلبها.../ كان بإمكانك فعل الكثير.../ كأْن تفنى كبروق في سماء حديقتها/ كان بإمكانك فعل الكثير،/ غير املشي بال هدى.»

في نقصانها الذي تعرُض فيه تشّوهات احلب، ال تنسى الدغاري دعوة املرأة إلى تقدير ذاتها واخلالص من إحساس الذنب ونبذ مراعاة اآلخرين على حساب مشاعرها، في القصيدة التي يرتقي فيها مجاز احلب إلى قط ٍط متوثب ٍة: «ال تسكني قلبك دائما، أريحيه قليال... عقلِكالذيتركِتهوراءِكوأنتتلهثن­يمنأوجاع احلب ال تفتحي شباكا يفصلك عن جارتك اخلمسينية، قططها املتوّثبة على أسماك الزينة في بيتك فأٌل سيء ال تنسي قبعًة وشاًال نسيْتهما عندك ذات ليلة باكيٍة أنهْت فيها عالقة حّب لم تبدأها بعد». في نقصانها الـذي يستلزم اإلبــداع بتضاده مع الكمال، ال تنسى الدغاري كذلك عرض بعض من طبيعة املرأة وبحار سيكولوجيته­ا، وفقا لرؤيتها عنها، موزعة في قصائد احلب، ومخصص لها قصيدة حتمل عنوان «النساء»، تضع بعضا منها كتصدير على الغالف اخللفي لكتابها: «النساء طبخة سريعة النضج،/ قامات ذرة تالعبها ريح مارس الدوارة،/ ضحكاتهن املكتومة أمام مقهى رجالي قميص محكم األزرار،/

منيمُتهّن على الـدرج انفجاُر عٍني بعد ليونة تربٍة./ النساء ودوداٌت متى رغــَنب،/ لعيناٌت متى اجتزن سوق اخلضار؛/ يا َلسّلة التفاح على زنودهّن/ شراهٌة عند القضم وعند ال َّت ْرك» ....

وفي النهاية التي ال توحي بنهاية حيث تغتني اجملموعة بأبعاد متعددة وبانفتاح أكواٍن على أكوان احلب، ُتلّخص الدّغاري رؤيتها عن احلب باحلب الذي يجد روَحه في روح الكون، سالكًا درب نضارة الطبيعة ومعّبرًا بلغتها: «حٌّب يرجعَك إلى التربة، إلى صلصال احلياة، تقول له أحبك، يقول لك التفت إلى الكون وتأَّمْله، أنا هناك عند ضوء الشمس وعتمة الليل، حباحب أو ورقة توت على ظهر منال».

في كلها الناقص، فداحتها الكاملة حول احلب، ُتدخل الــدّغــاري قصيدتني عن املــوت في لوحتني بخطاب للموت عن أخذه التلميذة «رحمة» من روح فصلها، ومعلمتها ودرسها وأقالمها، مع طلبها منه الترفق بها. وأخذه للمناضلة لينا مع تصور رقدتها في «األبدّية البيضاء» التي تصّوَرها الشاعر محمود درويش عن دار املوت. كما تدخل صوت فيروز املرافق للذهاب إلى موعد احلب، وتستلهم الشاعر أوكتافيو باث الذي ُيشّكل لها: «عاملًا آخر يطل من حتت شرشف احلياة».

وفـي محورتها وإدخـاالتـ­هـا املتنوعة عـن املـوت واحلياة، في ح ّبها امللتبس، شفافي ِة ووحشي ِة رغباتها، نحِت وتشكيل قصائِدها مبخالفة نظرة الشعراء إلى طقوس صنع القصيدة، مبتضادات صنعها للشعر، بهذه اجملموعة التي تستكمل جهود ثالث مجموعات سابقة؛ يعيش قارئ هدى الدغاري كلها الناقص، فداحَتها الكاملة، مبا يدفعه لعيش نقِصه وتكامله.

هدى الدغاري: «يا كلي الناقص يا فداحتي الكاملة» دار سحر للنشر، تونس 2020 123 صفحة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom