Al-Quds Al-Arabi

«قصر الصبار» رواية العراقي زهير كريم: منظور ينتصر دائمًا لإلنسان

-

ترى الروائية الهولندية كوني باملن أن «كل اآلداب تنبع من روحنا املكسورة، من اجملهود الذي بذله جهاُز دفاعنا على مّر العصور لعالجنا من األلم وملقاومة املـوت»، وهي محقة إلى حد بعيد، فمن لم يعرف األلم طريقه إليه ال ميكنه أن يكتب عنه، خاصة إذا انطلق من معاناة تعرضنا لها في مرحلة مبكرة من حياتنا والتي في الغالب نتج عنها تشوهات ليست جسدية ميكن لآلخرين رؤيتها، بلنفسية سيالحظون وجودهافي تصرفاتنا وفي ما أصبحنا عليه رغما عنا.

ساعتها يسارع الغير للحكم علينا مما رأوه ال ما سبب ذلك، وقد يكونون في األغلب على حق، فبطريقة أو بأخرى اإلنسان ابـن بيئته كما يقول تشارلز دارويـــن، لـذا فالكتابة متنحنا اخلالص حني نفقد األمل في كل شيء، وليس ضروريا أن يكون الواحد منا كاتبا ليعبر عن هواجسه اخلفية، بل نحن نتحدث عن الكتابة مبفهومها األشمل، أن نكتب ال ألجل أن يحفظ التاريخ أسماءنا بل لنقاوم ما نحاول إخفاءه أو لنتصالح معه بطريقة ما.

قد تكون القراءة أو الكتابة بالنسبة للبعض رفاهية أو إثباتا على أننا موجودين على حد تعبير ربيع جابر، أو رمبا وسيلة نتخذها ال لنقاوم املوت وأشباحه، بل لنقاوم انكسارات املاضي التي خلقت لنا حاضرا ما كنا لنتمناه ألنفسنا، ولكنها احلياة التي قد نحظى فيها بفرصة اكتشاف كل شئ على طريقتها وليس مثلما نريد.

ولعل ذلك من بني املواضيع التي طرقتها رواية «قصر الصبار» للكاتب العراقي زهير كرمي وبدايتها حني يعثر صحافي كان في مهمة بحث عن تاريخ القصور، على مذكرات امرأة اسمها نرجس حياتها تشبه اللغز، فيقرر تتبعه انطالقا مما دونته عن نفسها بعيدا عن كل أشكال الزيف وأحكام الغير. وقصة نرجس في احلقيقة ذكرتني مبارلني مونرو، مارلني التي رسخت في األذهان كممثلة إغراء بجسد مثير لدرجة ال ميكن أن يتخيلوها غير ذلك، بل رمبا يذهب البعض في كونها بالسطحية التي تؤهلها ألن ال تكون أعمق قليال من أفكار الغير اجلاهزة منذ آالف العصور، أو لن يستوعبوا أنها قارئة وكاتبة أيضا، فهم يرون كل امرأة جميلة بالضرورة مشروع إنسانة سطحية، في حني لم تكن مارلني كما صورها اإلعـالم فهي تركت كتابات مؤملة عن حياتها، لذا خطرت ببالي عند قراءة «قصر الصبار»، فالتشابه بينها وبني نرجس ليس فيما يبدو ظاهرا للعيان، بل في احلياة اخلفية التي حتكمت وحتمت عليهما ما أصبحتا عليه حقيقة تظهر جليا في العيون، وليست تلك احلقيقة التي نحتفظ بها ألنفسنا ونعود إليها متى شعرنا بالغربة، ففي عبارة لسليفيا بالث تقول فيها: «أكتب ألن ثمة صوتا بداخلي ال يهدأ». ووحدها تلك األصوات ما يجعل أمثال نرجس يستكني للكتابة وبها.

وعودة حلكاية نرجس التي حولت القصر الذي تركه زوجها إلى «ملهى ليلي»، تستقبل فيه كبار املسؤولني في تلك الفترة احلاسمة من تاريخ العراق، وهنا لم يحلل الكاتب الشخصية التي متتهن الدعارة من زاوية نفسية وحسب، بل روى من خاللها سيرة العراق ومن تعاقب على ذلك القصر أي قصر الصبارشخصي­اتعلىاختال­ف أطيافها انتهاء باالحتالل األمريكي الذي هو نقطة انطالق الرواية أي احلاضر.

«قصر الصبار» ليسترواية بوليفونية بأصوات متعددة كل يروي حكايته من وجهة نظره، بل إن الصوت الذي يطغى ويتحكم في تلك الشخصيات هو صوت نرجس التي حتكي عن جتربة الوجود: «لتبرهن لنا دائما، أن هناك مساحة تتسع وبـدون حدود للمزيد من الصور، لقد وهبتنا احلياة كاميرا بذاكرة عمالقة ميكن أن منسك بواسطتها عددا النهائيا من احليوات قبل أن تتوقف الرحلة» على حد تعبير زهير كرمي في أحد حواراته الصحفية.

قد تبدو الرواية ملن سيقرأها حكاية عن العراق وكل التحوالت السياسية التي عقبت عليه، وعن نساء امتهن الدعارة، عن غياب الفن وعن احلروب التي تقزم أماني اإلنسان وجتعله يطمح ألن يكون الناجي األخير دون أن يكون ألحالمه سقف توقع أعلى قليال من النجاة.

كما أنها أيضا ليست عن الشعوب التي ابتعدت عن جوهر الفن واملوسيقى التيلوالها ملا كان للحياة معنى، إذ تقول الرواية: «املوسيقى حتمي من اخلوف»، بل جوهر الرواية بعيدا عن حكايتها التي سيقرأها ويؤولها كل واحد فينا كل من زوايته هو اخلوض في الظروف النفسية لكل شخصية ومحاولة فهمها وطرح األسئلة على ضوء ذلك.

فــإن نحن نظرنا إلىشخصية نرجس جنـد أنها تفتقد لالستمتاع بكل ما يحيط بها، حتى وان افترضنا أنها جلأت إلى ما جلأت إليه عن اقتناع ال إجبار، فهي ترى في الرجال ومنهم زوجها مجرد حشرات التصقت بجسدها، وهذا عبرت عنه حني قالت: «لقد كان قلبي فارغا من أي شيء كأنه صحراء ال شجرة فيها وال بئر وال أثر ألقدام بشر.»

حمت نفسها بنفسها من أي أمر قد يعيدها إلى املاضي الذي أرادت نسيانه تقول: «لم أتردد في طرد أي شعور باحلزن، كل ذرة حنني، احتفظُت بروحية الضائع الذي وجد َفي ضياعه الطمأنينَة، إْذ بدْت لي أّية إشارة للعودة إلى املاضي، هي اخلطر الكبير الذي يهدد حياتي».

قد تبدو ملن يراها أو يصادف أمثالها أنها شخص أناني لكنه أسلوبها في احلياة الذي يحميها من اخلوف الذي حولها مع الوقت إلى إنسانة مختلفة متاما تقول: «أدركت أن املرء كي يعيش ال يجب عليه أن يهتم لشيء سوى لنفسه، ال يجب أن يخاف، أن يبحث عمن يحميه أوًال. سخرُت كثيرا من الناس لهذا الهدف. بعد وقت ليس طويال على كل حال، حتولت إلى ذئبة! كيف حدث ذلك، كيف اكتشفت أنني حتولت إلى كائن آخر له مخالب ال ترحم!».

عاشت نرجس التفكك األسري في طفولتها وهذا جعلها في ما يبدو ال تعاني من تبلد في املشاعر بل جتاوزته إلى العيش على نحو عبثي تتساوى فيه احلياة باملوت، ولعل أكثر شرح لشخصيتها ما ورد في الرواية على لسان الصحفي الكاتب، إذ يقول: «لم تكـن حكاية نرجس - في بداية اطالعي عليها - تستحق املغامرة حقا، تخلو من التحريض على قبول املشقة التي نتحملها عادة عند كتابة الرواية، ولست – من جانب آخر - الطفل الذي تدهشه احلكايات اخلالية من الفيضان، أقصد احلدث الذي يخترق العادي وميحو صورة النهر الثابتة في الذاكرة باعتباره خطا. حسنا، أعتقد أن احلكاية اجلديدة البد أن تنطوي على فيضان ميسح اخلط، لكنني في نقطـة ما من سيرتها اخملتصرة، شعرت بأنني أمسك بالسر، الشيء الذي يجعل الدمية العادية الصامتة مثيرة، أن تصدر صوتا عندما ينقر الطفل بأصبعه على موضع منها، هكذا قلت لنفسي وأنا أتخيل صوت الدمية الذي يشبه حلنا طويًال مضطربًا، نحتاج لكي نفهمه إلى اإلصغاء اجليد. في النهاية قلت لنفسي إن األشياء كلها تنطوي على قصد ما، مخفي رمبا، لكنه يلمع في اللحظة التي نزيل فيها ما يشبه طبقة الغبار عن سطحه، نصقله باحملاليل ليظهر جوهره، تتنفس الروح املتوقدة داخله فتضيء.»

في الرواية شق احلرب الذي عرف الكاتب كيف يوازن بينه وبني الشق الثاني الذي يتحدث عن النساء أمثال نرجس، لكن ليس من منظور سطحي بل من منظور إنساني ينتصر دائما لإلنسان وال أحد سواه.

في الرواية أصـوات أخرى حتكي حكايتها، لكني اخترت احلديث عن نرجس كونها الشخصية األهـم التي اختزلت جتربتها احلياتية الكثير من املواضيع اإلنسانية االجتماعية والسياسية، فنحن نقرأ تاريخ العراق من خالل قصر الصبار.

لرمبا الشيء الوحيد الذي رأيت أنه ليس أفضل شيء ميكن التعبير به هو األلفاظ النابية التي وردت بالرواية، وطبعا تلك األلفاظ جاءت على لسان الشخصيات الروائية التي عبرت عنها في جوها ذاك وليست مقحمة بل استخدمها الكاتب مبا يليق بالسرد، لكن في األدب أتفق مع رأي إرنست هيمنغواي في كتابه «باريس عيد، وليمة متنقلة» الذي يرى أن األشياء بالتلميح ال التصريحوتب­قى هذه وجهة نظرتي انطالقا من الزاوية التي أحب أن أقرأ من خاللها األدب.

عدا ذلك فالرواية عن احلروب وعن اإلنسان الذي يحاول التعبير عن نفسه إلى أبعد نقطة ميكن أن تصل إليها اللغة، مما يحيلني إلى ما قاله ريلكه: «ُأحّسني أقرب إلى ما ال تبلغه اللغة». زهير كرمي: «قصر الصبار» اآلن ناشرون، عمان 2022

192 صفحة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom