Al-Quds Al-Arabi

خيار الكرة والكتابة

- أمير تاج السر

طبعا نتابع جميعنا، مبختلف أعمارنا، هذه األيام مباريات كأس العالم التي أقيمت هذه املرة في دولة قطر، بإمكانيات وفعاليات مدهشة قطعا حولت أنظار العالم كله ليس إلى قطر فقط، ولكن إلى املنطقة العربية كلها. وقد كانت النظرة إلى العالم العربي واإلسالمي دائما سلبية، ودائما ما ترد سيرة العنف واإلرهاب في كل ما يخص بالد العرب، وحتى بعد أن تقدمت الدنيا تكنولوجيا، وأصبح اكتشاف الغامض عاديا وسهال، لم تتغير تلك النظرة، أي لم تتحل باإلنصاف كثيرا.

ثم لتأتي دولة فتية من دول العرب لتجلب كل ذلك االحترام ولترسي دعائم احملبة والسالم بني الشعوب وبتنظم أكبر فعالية كروية في العالم من دون إخالل بثقافتها وموروثها الفكري واألخالقي، أكثر من ذلك. تبرز ذلك املوروث لكل ضيف حضر وشارك في املونديال.

أظن ال مقارنة بني عرس الكرة عموما، وأي عرس من أعراس الثقافة أو الكتابة التي تقام هنا وهناك على مدار العام، سواء أن كان معرض كتاب أو مهرجانا شعريا أو مؤمترا من مؤمترات الرواية واملسرح، فاجلمهور الغزير، الذي ميكن يقيل، أو يقضي يومه أمام شباك للتذاكر، والذي ميأ األماكن ويفيض هو جمهور الكرة، وغالبا ال عالقة ملثل هذا اجلمهور باألنشطة اإلبداعية وإن كانت ثمة عالقة، فهي سطحية للغاية ومع جزء بسيط منه. وينطبق هذا األمر بالتأكيد على كل الفعاليات االجتماعية والسياسية التي قد تتجرأ وتنعقد أثناء حدث رياضي كبير مثل هذا الذي نعيشه، أو حتى حدث أصغر كثيرا من هذا.

وقد كتبت مبناسبة افتتاح كأس العالم في الدوحة، في ملعب البيت الذي شيد على شكل خيمة، أن عرسي كان يوم افتتاح كأس عالم سابق أقيم في أمريكا، وأنني ما اخترت ذلك اليوم صلفا أو جتاهال للحدث الكبير، ولكن ألن صالة األفراح التي من املفترض أن يقام فيها حفل العرس كانت خالية ومتاحة في ذلك اليوم، بعكس كل األيام التي سبقت، والتي ستأتي بعد نهاية احلدث.

نحن ابتهجنا بالعرس وغنينا لكن وسط عدد قليل جدا، من الناس، ألن معظم من متت دعوتهم، كانت أبصارهم معلقة بالشاشات تتابع االفتتاح املبهج لعرس الكرة.

اذكر مرة أننا أقمنا أمسية شعرية في قاعة من القاعات التي حتتفي بالثقافة واملثقفني، أظنها كانت في طنطا، في مصر، والحظت وأنا أجلس على املنصة أن جمهورنا الذي جاء للمؤازرة كان أحد عشر شخصا فقط، عشرة رجال وسيدة واحدة كانت حتدق في ساعتها طوال الوقت. وألننا أنا وزمالئي الشعراء كنا منلك رعونة البدايات آنذاك، وعدم االكتراث ألشياء كثيرة تستوجب االكتراث، لم نستأ من القاعة شبه اخلالية، قرأنا قصائدنا العاطفية والوطنية واالجتماعي­ة باحلماس نفسه، الذي نقرأ به دائما. وحني انتهينا بعد حوالي ساعتني، جاء أحد منظمي األمسية، ولم يكن بني احلضور، ليقول لنا بكل هدوء: نأسف لعدم حضور الناس لأمسية، فقد صادف اليوم مباراة مهمة، بثت عبر األقمار الصناعية في نفس ساعتي األمسية، ولم نكن نعرف.

هذا االعتذار من املسؤول الذي كان هو نفسه في الغالب من احملدقني في الشاشات يحضر املبارأة، يعتبر اعترافا واضحا بتسيد كرة القدم على املزاج الشعبي في الدنيا كلها، ويدفعنا للتنويه دائما بضرورة احترام ذلك، مبعنى أنك حني تنوي إقامة أي نشاط ثقافي، في أي مكان، عليك ان جتعل الباحث العظيم غوغل يتلفت جيدا وهو يبحث عن نشاط كروي يبث من مكان ما أثناء اندالق ثقافتك.

ذلك حتى ال نحبط وال نتهم الثقافة مبحدودية اجلمهور ألن املنصف هنا أن نقول: اخليار ليس األول وإمنا توجد خيارات أخرى ذات جاذبية

أفضل، متاما مثل أي خيارات في احلياة، أنت تستعرضها وتختار األكثر مالمسة لعاملك. هنا كرة القدم قد ال تكون األكثر مالمسة لعاملك، لكن األكثر سطوة في توجيه اخليار إليها.

لو أعملنا ذاكراتنا جميعا في املاضي أيام الطفولة وبداية الصبا، لن نعثر على كثيرين كتبوا القصة والشعر، أو حتى حتمسوا، وشاركوا بإلقاء الشعر اجلاهلي في اجلمعيات األدبية التي كانت تقام في املدارس آنذاك، ولكن الكل لعب الكرة في األزقة واحلواري، واملمرات الضيقة، ورمبا وسط األثاث في البيوت. لعبها بالكرة الرخوة، التي تصنع من الشراب احملشو باخلرق، ولعبها بكرات حقيقية، لعبها حافيا وبحذاء، هكذا.

وحني كنت في املرحلة االبتدائية كنت ألعب مع الصبية في حينا في مدينة بورتسودان وفي املرحلة االعدادية في مدينة األبيض، في الغرب التي انتقلنا إليها بحكم عمل والدي احلكومي. كان لدينا فريق جيد، لعبنا فيه باألحذية وبكرات مقلمة باألبيض واألسـود، وضد فرق من أحياء أخرى.

طبعا لم أعمر كثيرا في تلك اللعبة، بسبب حيل الكتابة وسطوتها على مزاجي، ورمبا كان سيكون احلال أفضل لو استمررت في لعب الكرة.

اآلن أنظار العالم كلها معلقة بالدوحة، ليس تعلقا عاديا ولكن تعلقا منبهرا، تلك امليادين التي بدت حتفا معمارية، تلك الشوارع املزدانة، واألسواق الثرية اجلاذبة، والكثير مما فعلته الدوحة لتطوير نسختها من كأس العالم. تلك النسخة األفضل من أي نسخة أتت وستأتي.

حتية كبيرة لكرة القدم إذن، ولندع اإلبداع الكتابي جانبا، حتى يحني وقته األنسب.

كاتب من السودان

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom