Al-Quds Al-Arabi

تباينت روايات شّراحه ودارسيه: إعادة «تخريج» الشعر القديم و«تحقيقه»

- منصف الوهايبي

كنت قد شرعت منذ 2006 في إعادة «تخريج» ديوان أبي متام، أو»حتقيقه»؛ مستأنسا باملنشور مـنـه، وآخـــره الطبعة الـصـادرة عن مؤسسة عبد العزيز سعود البابطني عام ؛2014 وقد توصلت في «تخريج» بعض القصائد إلى أن نسبة التغيير تتجاوز الثالثني في املئة. وكانت املـصـادرة التي اعتمدتها أن تخريج الشعر القدمي، وإعـــادة ترتيب العالقة بــه، هو أشبه بعلم اآلثـار الـذي يعنى من بني ما يعنى به؛ ترميم املاضي وما فسد من آثـاره وتفرق؛ بعالجها وصيانتها. وفي هذا املقال أسوق بعض األمثلة، من بعض القصائد التي تـروى روايـات عديدة؛ وقد حاولت أن أفـرز املنحوالت، وأن أستر ّد الصورة األصل ّية.

ومـثـال ذلــك قوله على الكامل:

قف بالديار الــدارســ­ات أضحت حبال قطينهن رثاثا

وهـــذه روايــــة ابـــن املستوفي «بالّديار» مكان «بالّطلول» املعتمدة فـي سـائـر الـنـسـخ. وأقــــّدر أّنها األنسب إذا أخذنا باالعتبار ما في الكلمتني (ديار/ دارسات) من بعض متاثل صوتّي أو إيقاعّي مثل تكرار الدال والـراء. وهذا التماثل سمة ال تخفى في مذهب أبي متام الطائي، وكثيرا ما اعتمده القدامى في إصالح البيت املصحف.

أّمـا «عالثا» بضّم العني، فهو ترخيم «عالثة». وقد ذكر أبو العالء املـعـري أنــه كـان ألبـي متــام غالم يسمى بهذا االسـم، ومن اجلائز في نظره أن يخاطبه. وأشـار إلى تقليد شـعـري مـتـعـارف، فـ»قد يحتمل أن يفتعل الشاعر أسماء لغير موجودين فيستعني بها في القافية وحشو البيت»، وأحـال على ثالثة مطالع من شعر النابغة، ليستنتج أنه من احملتمل أن تكون أسماء النساء فيها «أسماء نساء موجودات، وال ميتنع أن يكن في العدم، ألن الشعر بني على ذلك». وهذا هو الّتخريج األرجح، وإن كّنا نتحّفظ من قوله إّن هذه األسماء مما يستعني به الشاعر في القافية وحشو البيت، وكأنها عنده من «اإلجلاء». واألمر في تقديرنا أعمق من أن يفسر بإجلاء أو ضـرورة شعرية، إذ يحيل على ضرب من البحر عالثا

أبو العالء املعري املشاركة الـوجـدانـ­يـة التي كان بـروايـة الصولي (نسخة ليدن) ينشدها الّشاعر القدمي. على أّن حيث جــاء «حـتـى اسـتـهـل سح أبا العالء لم يفته أن ينبه إلى رواية العزالي» مكان «حني استهل دمع «ردّية جّدا « بعبارته، وهي رواية الغزال»؛ وذلك حتى ال يكون في «عـالثـا» بكسر الـعـني، وقــال إن هذه القصيدة ذات األبيات الّسّتة املراد بها «العلث» من علثث الشعير بــروايــة الـّصـولـي والـّتـبـريـزي، باحلنطة أي خلطه بها؛ وعليه فإن واألبيات السبعة بـ«روايتي»إيطاء. حاصل املعنى أو اخلطاب «اخلط وعليه ميكن أن تروى هذه الغزلية في أفعالك وقوفك بهذه املنازل». كمايأتي: ورّد عليه ابـــن املـسـتـوف­ـي بــأّن هذا القول «ال معنى له يـدل عليه اللفظ» وأضــاف «وكيف رويت لفظة» عالثا «فهي رديئة، ولو أن عالثة غالمه على احلقيقة، لوجب عليه جتّنب هذه الّلفظة واّطراحها لغرابتها». وال مسّوغ لهذا الـّرّد ألّن أبا العالء ذكر منذ البداية أّنها رواية رديئة جدا.

وقوله على البحر اخلفيف:

ق ْف نؤ ّب ْن ِكنا َس هذا الغزا ِل فيه ملسرحا للمقاِل

إ ّن

فقد ذكر محّمد محي الّدين عبد احلميد محّقق املوازنة أّن هذا البيت ال يوجد في ديوانه املطبوع. وهو كذلك. ولم نقف عليه في أي من النسخ. واألرجح بعد أن نظرت في القصائد التي جـاءت على قافية الـالم من البحر اخلفيف، أن هذا البيت قد يكون مطلع قصيدته على البحر اخلفيف:

شــّد مـا استنزلتَك عـن دمعك األظــــــ­ـــعان حني استهل دمع الغزا ِل

ولكن شريطة أن نقرأ هذا البيت قـْف نؤّبْن ِكناَس هـذا الغزاِل /// إن فيه ملســــرحا للمقاِل

شــد مـا استنزلتك عـن دمعك األظعا ُن ح ّتى استه ّل س ّح العزالي

كـمـا ميـكـن أن يــــروى بيتها الّثاني ( وهو األّول في الّديوان)، بالصيغة التي جــاء عليها عند الّصولي والّتبريزي؛ ألّنه «إذا كّرر الّشاعر قافية الّتصريع في البيت الثاني، لم يكن عيبا» على ما يقول ابن رشيق.

واملـراد بـ«الكناس» اخليمة أو البيت من بيوتهم، سماه كناسا ألنـه جعل املــرأة غـزاال على عادة القدماء في تشبيه املعشوقة.

وقوله على الكامل:

ليس الـوقـوُف ِبـُكـْفِء شوقَك فانزِل /// َواْبُلْل َغليلَكباملدامِع تبلل

وهذه «رواية» لي، جمعت فيها بني روايتي الصولي والتبريزي «بـــُكـــْفء» بــدل «يــكــّف شوقك» ورواية املعّري «تْبلِل» بفتح التاء، بدل «تبلل» بضم التاء، و«يبلل» بالياء املضمومة. وأقّدر أّن رواية الّصولي والّتبريزي هي األرجح، لصلتها مبـذهـب أبـــي متـــام في الدفع باملعنى إلى منتهاه كما في هذا البيت حيث يقارن الشاعر بني الوقوف والّشوق، ويجعل الّثاني أعظم من أن يكون كفؤا لأول.

وأّما أبو العالء فقد ذكر أّن قوله «ُتبلل» بضّم الّتاء، من أبّل املريض إذا بـرأ، فإن رويــت» تبلل» بفتح الّتاء، فهذا في تقديره حسن،ألّنه يحمل على بّل. وواضح أّن املعنى يتغير متاما ويختلف.

وهـذا من شأنه أن يعزز رأينا في أن إدراك املتناظرات ال يستند إلى مقتطعات من التجربة املعيشة أو املتخّيلة وحسب، وإّنـمـا إلى سمات متماثلة بني ذاتــني: ذات الشاعر وذات الـقـارئ. من ذلك قول اآلمدي، بعد أن استفاض في ذكر التصّرف في وصف الّطلول: «وهـذه طريقة القوم في الوقوف على الديار، ولهم فيها من األشعار ما هو أشهر وأكثر من أن أحتاج إلــى ذكـــره، وتـلـك سبيل سائر احملدثني، وطريقة الّطائّيني [أبو متام والبحتري] ما عدال عنها، وال خرجا إلى غيرها».

وقوله على الكامل:

أمواطن الفتيان نطوي لم نزر /// شَعًفا ولم نندب لهّن صعيدا

وروايـة «شعفا» أقوى وأرجح من رواية «لم نزر شوقا»، واملعنى هو كيف نطوي الّرسوم والّدمن الـتـي هـي مـواقـف أهــل الفتوة، يريد الكرام، ولم نزر حَزًنا لها وال سهال، ألّنه أراد بالّشعف ما ارتفع من األرض وسفل، والصعيد إنما هو وجه األرض الذي فيه التراب، وأكثر ما يكون في ما اطمأن من األرض، ال في ما عال، فكانوا يرون الـوقـوف على الـّديـار من الفتّوة واملـروءة، وأّن طّيها عند االجتياز بها مـن الـّنـذالـة وقبيح الّرعاية وسوء العهد « بعبارة اآلمدي في املوازنة.

وقوله على الطويل:

أجل أّيها الّربع الذي بان آهلْه /// لقد أدركــت فيك الـنـوى ما حتاو ُل ْه

و»روايتي» وقد جمعت فيها بني رواية الصولي والتبريزي «خف» مكان «بـــان»، وروايـــة الصولي «أجنـزت» بدل «أدركــت». والبيت مبنّي على كالم متقّدم، ولكّنه غير مذكور في الّنّص؛ ألّن «أجل» في

معنى نعم. وحاصل هذا الصمت الذي نبه إليه أبو العالء أن املتكلم «كأنه ادعى أن الربع كلمه وشكا إليه فقال له: أجل أّيها الّربع». أّما تفضيلي «خـّف» فمرّده إلى أّنها مستخدمة في الشعر األقدم وفي القرآن، وهما من أبرز مراجع أبي متـام. واملقصود في اآلية»انفروا خفافًا وثقاًال» أو من مقاصدها «ركبانًا ومـشـاًة» وهــذا يناسب القوم املترحلني. وفي الشعر، أشير إلى بيت امرئ القيس: «يزل الغالم اِخلّف عن صهواته...» واِخلّف هو كّل شيء خّف محمله. ومن كالم العرب أيضا «خـرج في ِخـّف من أصحابه» أي في جماعة قليلة. وأّمــا «أجنـــزت» فــأّن هـذا الفعل «حّمال أوُجه» وهو ما يناسب أكثر شعر أبي متام، إذ ميكن أن يحمل البيت على «َجنَز» بفتح اجليم أي قضى حاجته ووفى أو أوفى بها وقضاها؛ وأن يومئ إلى «َنِجز» بكسر اجليم، مبعنى فني وانقضى.

وما إلى ذلك من أمثلة كثيرة جدا، إذ لم تسلم قصيدة من تصحيف أو حتريف أو من تعدد رواياتها واختالفها. وهي تصدر عن ذات الّرؤية الّنقدّية في أّن من الّشعر مطبوعا ومصنوعا، وأن املطبوع هو السمح املنقاد، واملصنوع هو العصّي املستكره؛ واألّول سماحة ويسر، والّثاني توّعر وابـتـداع. والّشعراء إّنما تتفاوت حظوظهم مـن هـذيـن «الــنــوعـ­ـني». وبسبب من هذا التفاوت، تباينت روايات شــّراح الّشعر ودارسـيـه، فكانوا من «النوعني» على طرفي نقيض: طائفة لم تكن تتقّبل إّال املطبوع، وكان مثاله شعر البحتري، ملأنوس ألفاظه وقريب استعاراته، وطائفة كانت ترضى عن املصنوع أو مذهب البديع، وال تنكر انفالته من عمود الّصياغة العربّية املوروثة في بناء األساليب البيانية. وعلى قدر ما سار أصحاب هذا النوع من الشعر، بظاهرة البديع إلى غايتها، وربما شارفوا بها تخومها، وأقصى ما ميكن أن حتتمله تقليبات اللغة؛ سـار بها الّنّقاد والــّشــّراح، على اختالف مواقفهم وتباينها، إلى مسألة نـقـدّيـة فـكـرّيـة أداروهـــا أساسا على سمت تفسير املعنى الشعري اخلاص في «متفصله» مع املعنى العام أو املشترك الذي كانوا يعدونه من املركوز عاريا في الّطبع.

 ?? ?? أبو متام
أبو متام
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom