Al-Quds Al-Arabi

مالمحنا الُمغَّيبة في الدراما العراقية الراهنة

-

اإلنتاج الدرامي العراقي لم يعد عراقيا من حيث احملتوى والشكل، بعد أن أصبح يقاس على عقول اخملرجني من غير العراقيني، الذين متت االستعانة بهم من قبل شركات إنتاج يديرها أشخاص غير عراقيني، وإن كان التمويل عراقيا، بالتالي فإن النتيجة أننا اليوم أمام دراما من حيث املوضوعات ال شيء يربطها بالهموم العراقية، وهنا مربط الفرس كما يقال في األمثال الشعبية.

فما يعرض على الشاشة عبارة عن دراما غريبة بكل شيء عن بيئتنا احمللية، فال الشوارع شوارعنا وال البيوت وال الشخصيات وال القضايا.

ما الذي تبقى إذن حتى ُيطلق عليها دراما عراقية؟ فقط املمثلني عراقيني، فهل هذا يكفي؟

كيف ميكن أن تطلق عليها تسمية عراقية إذا مت تغييب أهم العناصر فيها مثل املوضوع، واألفكار، والشخصية، والبيئة؟

ميكن أن تكون نتاجا دراميا ناجحا لكن هـذا ال ينفي عنها أنها ليست عراقية، حتى لو كانت اجلهة املنتجة عراقية. األهم في ذلك، طاملا أنها ُتصَّدر إلينا على انها عراقية، أنها دراما تستغفل املتلقي العراقي، لتمرير رسائل مختلفة فيها من الضرر أكثر من الفائدة. أولها: هي تشير إلى أن العراق خال من العناصر الفنية األساسية القادرة على تقدمي إنتاج درامي من كتاب ومخرجني ومدراء تصوير وتقنيني، وهذا يتنافى مع الواقع، إذ أن هناك عددا من هؤالء أثبتوا في مجموعة أعمال عرضت على الشاشة على مدى السنني املاضية، أنهم يتمتعون بقدرات جيدة، وبعضهم ال يقل شأنا عن زمالئهم املتميزين من العرب، ففي مجال الكتابة على سبيل املثال ال احلصر هناك صباح عطوان وعلي صبري، وحامد املالكي، وأحمد هاتف، وفي اإلخراج هناك فالح زكي، وحسن حسني، وصالح كرم، وعزام صالح، وهشام خالد، وأسماء أخرى. كل واحد من هؤالء في رصيده خبرة مهمة، وأعماال ناجحة، تؤكد قدرته على تقدمي دراما تتوفر فيها عناصر فنية جتعلها مؤثرة من الناحية الفنية. ملاذا إذن يتم التغاضي عنهم وجتاهلهم، واالستعانة مبخرجني غير عراقيني؟ كيف ميكن املراهنة على تطوير اإلنتاج العراقي إذا فرضنا على كل واحد منهم اجللوس على دكة العاطلني عن العمل؟

فنانون عاطلون عن العمل

بات من الصعب على أي واحد من اخملرجني والكتاب العراقيني أن ينتزع الفرصة ليقدم عمال، بعد أن حتولت إدارات اإلنتاج بأيدي أشخاص ال يهمهم استمرار النتاج العراقي بعناصر عراقية، بقدر ما يهمهم حتقيق األرباح وبإسم اإلنتاج العراقي، حتى أن الكاتب علي صبري الذي رفد الدراما بالعديد من السيناريوه­ات وبسبب انعدام أي فرصة تتاح له لتقدمي نصوصه،

أعلن اعتزال الكتابة والعمل في الفن نهائيا، احتجاجا على ما يجري من عملية تدمير للعناصر احمللية عبر استبعادها واالستعانة بعناصر غير عراقية.

الرسالة الثانية لإلنتاج احلالي، تهدف إلى تفريغ العمل الـدرامـي من احملتوى الفكري الــذي يالمس وجــدان اإلنـسـان العراقي املعاصر، وذلــك بالقفز فوق الواقع بكل محموالته املعبأة بالدراما، إلى واقع افتراضي سطحي ال صلة له بالواقع العراقي، ولن يكون تأثيره أكثر من تأثير الفقاعات التي تخلفها مـواد الغسيل التي ينتهي مفعولها مع االنتهاء من استعمالها، بالتالي فهي لن تترك أثرا طويال في عقل ووجدان املتلقي. فهل هذه وظيفة العمل الفني؟ مبعنى أن اإلنتاج الدرامي حتول إلى مادة فعلها أشبه بفعل اخملدرات، وشتان بني التحريض على التفكير وتنمية الذائقة وبني تخدير العقول واألخـذ بها إلى منطقة هشة تدفع املتلقي إلى أن يتقبل كل شيء حتى لو كان يشكل تدميرا للذائقة وللمجتمع، وإال ما معنى أن تدور كاميرات اإلنتاج في شوارع وحارات وقصور تركيا اجلميلة والنظيفة، ليقنعنا اخملرج على أننا في العراق؟

هذه ليست درامـا طاملا تنتهج التزييف بـدءا من الكتابة مرورا مبواقع التصوير وانتهاء باإلخراج.

أما العناصر املشاركة من املمثلني في هذه األعمال، فأظن أن وهـم النجومية سيرا على تقليد املمثلني األتــراك، تلبسهم مبكرا جـدا، خاصة الشباب وهم األكثرية في هذا اإلنتاج، مع أن أغلبهم ال يستطيع أن يخرج عن سطحية األداء الذي يقدمه إلى أداء يتسم بالعمق والتفرد بناء على كل شخصية يؤديها في كل عمل، فال غرابة أن جندهم يراوحون في مكانهم،

وليس من تغيير في تصور الشخصية التي يؤديها عن ما قدمه من شخصيات في أعمال سابقة، والسبب في ذلك يعود إلى أنهم يعتمدون على وسامتهم فقط، وهذا ليس عامال أساسيا في التمثيل، علما بأن أغلبهم لم يدخل أي مختبر للتمثيل حتت إشراف ذوي اخلبرة من األساتذة واخملرجني، قبل أن ينخرط في العمل، كما هو حاصل لدى املمثلني في أماكن أخرى من العالم، فكثيرا ما نقرأ عن كبار املمثلني أمثال الباتشينو، وروبـرت دي نيرو، وداسـنت هوفمان، ودانيال دي لويس وآخرين، يحرص جميعهم بني فترة وأخرى على أن يعودوا إلى ستديوهات مختصة بإعادة تأهيل مخيلة املمثل احملترف وتطوير أدواته، حتى ال يسقط أسير النمطية فيكرر نفسه، رغم ما هم عليه من موهبة واحتراف عالي، ورغم أنهم يعملون مع مخرجني لهم أسلوبهم ورؤيتهم وفلسفتهم التي متيز كل واحد منهم عن اآلخر في ما يطرحه من موضوعات ومعاجلات فنية، بالشكل الذي ميكن القول أن كل مخرج من هؤالء يشكل مدرسة لوحده.

بناء على ذلك سيكون من املنطقي أن ال جند أي تطور قد يحصل مستقبال في أداء الطاقم العراقي الذي يتصدر اإلنتاج هذه األيام، خاصة الشباب، إذ سيبقون عبارة عن سلعة براقة وجميلة، لكنها سرعان ما ستفقد وهجها وتنطفئ، طاملا يعتمدون على أداء خارجي مسطح، يكتفون فيه بتقليد غيرهم من النماذج الرائجة في الدراما االستهالكي­ة التي سوقتها شركات إنتاج عربية، عمدت على أن تستسهل العمل، باعتمادها اقتباس األعمال التركية وتعليبها على أنها عراقية .

تسويق جنوم التك تك

إلى جانب ذلك مت استبعاد عديد املمثلني العراقيني ممن سبق لهم العمل، بعد أن تخرجوا من معاهد وكليات الفنون، وحل بدال عنهم جنوم مواقع التواصل االجتماعي «التك تك» بعد أن حققوا نسب مشاهدة عالية جدا، عبر فيديوهات ال عالقة لها بالتمثيل، أقل ما يقال عنها بأنها مسيئة للذوق، والقصد من االستعانة بهم ليس ألنهم ميتلكون موهبة التمثيل، وليس ألنهم يحظون بتقدير وتأثير فعال في اجملتمع، بل الستثمار جنوميتهم لتسويق األعمال، رغم ضعف امكاناتهم الفنية في األداء.

بهذه املناسبة البد من التذكير بأن ليبيا وتونس نالتا أرفع اجلوائز في اإلنتاج الدرامي وليس مصر أو سوريا أو لبنان في مهرجان اإلنتاج التلفزيوني واإلذاعـي الذي أقيم في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في اململكة العربية السعودية، وفوزهما يقدم

لنا دليال واضحا على حرص اجلهات املنتجة في هذين البلدين على تقدمي دراما محلية اعتمدت على خطاب الواقع احمللي، ولم تنتج مسلسالت مسخ غريبة عن البيئة واإلنسان في بلديهما شكال ومحتوى، ولم تنتج دراما مقتبسة من عمل أجنبي دون مراعاة الشتراطات الواقع احمللي شكال ومضمونا.

إعادة تقييم

البد من إعادة تقييم حالة اإلنتاج العراقي احلالي، واخلــروج بخطة عمل تعيد األوضــاع إلـى طبيعتها السليمة التي حتتفي باملواهب احمللية، ألن اإلنتاج الدرامي التلفزيوني باعتباره جزءا من بقية احلقول الفنية اإلبداعية، يشكل عنصرا مؤثرا في مخاطبة الوجدان، وفي إيصال رسائل إلى املتلقي رمبا أكثر تأثيرا جلماهريته من بقية احلقول الفنية األخرى.

كما أن إعــادة التقييم ستؤدي إلى توفير فرص العمل للكتاب واخملرجني والتقنيني، سواء من الشباب أو من األجيال األخرى، وإال ما جدوى معاهد وكليات الفنون؟ وملاذا هذا اإلقصاء املتعمد لعشرات املمثلني الذين نراهم في مسارحنا؟ وما احلكمة من حتطيم املواهب من الكتاب واخملرجني والتقنيني وركنهم في زاوية النسيان؟

اإلنتاج الدرامي في سوريا على ما وصل إليه من نضج فني في الكثير من األعـمـال، خـالل العقدين األخيرين لم ينهض إال بأيدي فنانني سوريني، وهكذا احلـال في مصر وتونس ولبنان. فلماذا إذن هذه احلرب املعلنة على الفنانني العراقيني وخاصة من يشكلون العنصر األبـرز في حلقات اإلنتاج وأقصد الكتاب واخملرجني والتقنيني؟

دراما نيوليبرالي­ة

واضح أن النيوليبرا­لية بكل بشاعتها قد وصلت إلى سوق اإلنتاج الدرامي العراقي قادمة من ساحة السياسة واالقتصاد العاملي، وبدأت في سلب هويته وعناصره وامكاناته احمللية، لتأخذ به إلى منط من اإلنتاج املستلب من حيث القيمة والهوية، إضافة إلى تدمير بنيته التحتية الوطنية، فهذا النهج في اإلنتاج الدرامي لن يحرك عجلة اإلنتاج احمللي، بل سيقضي عليه، ألنه يقفز فوق املشكالت، ويقترح حلوال ال تعكس احتياجات الواقع، وال يستثمر العناصر احمللية، كما تفعل سياسات النيوليبرا­لية لتدمير اقتصاد البلدان في العالم وخاصة ما تسمى الدول النامية أو دول العالم الثالث .

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom