Al-Quds Al-Arabi

سجاالت حول ستالني وكاسترو ودوستويفسك­ي

غابرييل غارسيا ماركيز في موسكو:

- جودت هوشيار ٭ كاتب عراقي

■ زار ماركيز موسكو للمرة األولى في عــام 1957 مندوبا عن صحيفة كولومبية لتغطية وقائع املهرجان العاملي للشــباب والطــالب. لم تكن رحلة عشــوائية، بل تلبية لنداء الروح. لم يستطع الصحافي والكاتب الشــاب، الذي تعاطف بشــكل واضح مــع األفكار اليســارية، أن يفوت فرصة زيارة روسيا السوفييتية.

وصف ماركيــز انطباعاتــ­ه عن هذه الرحلة في مقال رائع حتت عنوان «احتاد اجلمهوريات االشــتراك­ية السوفييتية: 22.400.000 كيلومتــر مربع دون إعالن واحد لكوكاكــوا­ل!». لم يكــن ماركيز قد كتب بعد أيــا من رواياتــه الرائعة، لكن في مقــال عن مهرجان الشــباب، وصف مبوهبتــه املتأصلــة بعمق ودقــة بلدا شــماليا ضخما، يتحول حتى بالنســبة إلى القارئ الروســي إلــى أرض غريبة مجهولة مليئة باملفارقات واحلماقة. أظهر ماركيز للروس بلدهــم العمالق «بدائيا جدا لدرجــة أن العديد من األشــياء لم تكن لها أســماء». كان مهتمــا بأول دولة اشــتراكية، وأراد أن يفهــم محتوى تلك القوة املذهلة التي أحدثت حتوالت هائلة وعميقــة في جميع مجــاالت احلياة، في بلد تبلغ مساحته سدس الكرة األرضية. أراد أن يــرى عواقب هــذا االنقالب بأم عينيه - بــكل تناقضاتها وحجمها. رأى ماركيــز بنظرته الثاقبــة التناقضات في كل مكان. واكتشف أن موسكو «أكبر قرية في العالم» حيث توجد ســاحات ضيقة تصطف على جانبيها منــازل متواضعة متتد على شــرفاتها حبال الغسيل وسط قصور كالســيكية جديــدة مهيبة، حيث تعتبر التصميمات الداخلية لهذه القصور منوذجيــة حتــى باملقارنة مــع محطات املترو اجلميلة، والناس في حاجة ماسة إلى الســكن، ويعيش أغلبهم في شــقق ضيقة أو مســاكن جماعية مكتظة، حيث يتــم اجلمــع بني صغــر، وحتــى تفاهة حياة الفرد ونفســيته مع االتساع املذهل والبهجة امللهمة لفلسفة فريق متماسك.

مقاومة مشبوهة

يعتقــد ماركيز أنــه قبــل املهرجان، مت توجيــه املواطنــن­ي بشــكل صــارم وحتذيرهم من إظهار اجلوانب الســلبية حلياتهم اليومية، أبدى ســكان موسكو مقاومة مشبوهة مبجرد أن أظهر األجانب رغبتهم فــي زيارة منازلهــم. لكن بعض ســكان العاصمة لبــوا رغبــة ضيوف املهرجــان، حيث مت الكشــف عن صورة حزينة حقا حلياة الشــعب الســوفييت­ي للضيوف. ويضيف ماركيز: «بدا للروس إنهم يعيشــون حياة جيــدة، لكنهم في الواقع كانوا يعيشــون حياة ســيئة». وحــز في نفــس ماركيــز مــا رآه: «كان من املريــر أن نرى كيف يعيــش الناس الطيبون والصادقون في شقق ضيقة أو شقق مشتركة، ويرتدون مالبس رديئة، ويتغذون بشــكل ســيئ. لكن هــذا كان ثمن التصنيــع، واالنتصــا­ر في احلرب الوطنيــة العظمى». واعتــرف الكاتب: «أكثر من مرة، وبقسوة متعمدة، طرحت الســؤال نفســه، فقط ألرى ما ستكون اإلجابــة عليه: «هل صحيح أن ســتالني كان مجرمــا؟ «وكانوا يجيبــون بهدوء

باقتباســا­ت مــن تقرير خروتشــوف». أثناء إقامة ماركيز في موســكو، حدث له الكثير من األشــياء املضحكة واملدهشة. جرت محادثة غريبة بينه وبني صحافيني ســوفييت في الفنــدق الذي نــزل فيه. بالطبع، كانوا مهتمني جدا مبعرفة كيفية عمل الصحافــة األجنبية، لقــد فوجئوا جدا بوجــود الصحف في اخلارج بفضل اإلعالنــا­ت، ولــم يرغب الكثيــرون في تصديق ذلك على اإلطالق، لذلك بدا األمر سخيفا للغاية. وماركيز، بدوره، كان في حيرة من وســائل اإلعالم السوفييتية. ذات مــرة رأى كشــكا مليئــا بأكوام من صحيفة «برافدا» في الصفحة األولى كان هناك مقال يحتوي على ثمانية أعمدة مع عنوان بأحرف كبيرة. كان الكاتب الشاب خائفــا: اعتقد أن احلرب قــد بدأت، لكن الترجمــة تقول: «النــص الكامل لتقرير احلزب عن الزراعة».

عندمــا كان ماركيــز محاطا مبجموعة من الشباب الفضوليني بالقرب من متنزه غوركي. برزت فتــاة من اجملموعة وقالت بلغة إسبانية صحيحة: «سنجيب على أي من أسئلتك بشــرط أن جتيب بالصراحة نفسها». وافق الكاتب دون تردد.

بادئ ذي بدء، قرر الشــباب معرفة ما لم يعجبه في االحتاد السوفييتي؟ أجاب ماركيــز، الذي الحظ عــدم وجود كالب ضالة على اإلطالق في العاصمة، «أعتقد أنه من القسوة أن يأكلوا كل الكالب هنا». تســببت هذه اإلجابة فــي ارتباك، وبدأ الشــباب يتجادلون مــع بعضهم بعضا باللغة الروســية، وأخيــرا صرخ صوت نسائي من احلشد باللغة اإلسبانية: «هذا افتراء نشــرته الصحافة الرأســمال­ية». عندمــا جاء دور ماركيز ســأل: هل ميكن للشــخص أن ميتلــك خمس شــقق في موسكو أجاب الشباب دون تردد وتقريبا في جوقــة: «بالطبــع. لكن مــاذا يفعل بحــق اجلحيم فــي خمس شــقق في آن وا ِحــ ٍد؟». وأدرك الكاتــب العبقري ما لم يدركه حتى األجانب الذين عاشــوا فترة طويلة في االحتاد السوفييتي وخدرتهم البروباغان­دا السوفييتية املتقنة الصنع. يقول ماركيز: «تكمن ســعادة الشــعب الســوفييت­ي واحلكومة السوفييتية في حقيقة أن الناس ببساطة ال يعرفون مدى سوء حياتهم». وأدى ذلك الحقا إلى حظر نشر وتداول كتبه في االحتاد السوفييتي لفترة طويلة.»

لقاء عاصف مع عدد من الكتاب الروس

في صيف عــام ،1979 حــل غابرييل غارســيا ماركيــز ضيفا علــى مهرجان موســكو الســينمائ­ي الدولــي. نظمت الكاتبة زويا بوغوسالفسـ­ـكايا اجتماعا ملاركيــز فــي منــزل الشــاعر أندريــه فوزنيسينسـ­ـكي فــي بلــدة األدبــاء (بيريديلكين­ــو) في ضواحي موســكو، حضر االجتماع عدد من الكتاب السوفييت (ميخائيل روشني، ليونيد زورين، يوري تريفونوف، يــوري كارياكني مع زوجته إيرينا زورينا، الكاتبة والباحثة في آداب أمريكا الالتينية وإسبانيا. وجاء ماركيز بصحبــة زوجته ومترجمته الرســمية. وتقــول زورينا في مذكراتهــا إن ليونيد زورين بدأ احملادثة قائال:

ـ يقولــون إنك تعيــش اآلن في كوبا وصديق لفيــدل كاســترو. أخبرنا كيف تسير األمور هناك، في «جزيرة احلرية».

- أنا ال أعيش في كوبا بشــكل دائم، بل في املكســيك أكثر. لكن في كل مرة آتي فيها إلى هافانا، أشعر وكأنني في منزلي. فيديــل يغمرنــي بحنانه. فيــدل إرادة حديديــة وقوة خيال تســمح له بهزمية األعــداء. إنه امللهــم الرئيســي للثورة املاركسية. يأتي دائما ليفوز.

- إنه يغنــي أفضل مــن غوركي عن لينــني» علق روشــني بصوت عــال إلى حد ما. لكن كلماته بقيــت، بالطبع، دون ترجمة.

حاول ليونيــد زورين حتديد اهتمامه بجزيرة احلريــة، فســأل: كيف يعيش الناس هناك؟

ـ أصبح الناس متعلمني، ومت إنشــاء نظام تعليمي ممتاز في كوبا. رعاية طبية مجانية على مستوى عال متاحة للجميع. لقد اكتســب الكوبيون كرامتهم وقاوموا بشجاعة احلصار األمريكي.

كان ماركيــز مســتعدا لإلفاضــة في احلديــث إلى مــا ال نهايــة. قاطع يوري كارياكني الكاتب قائال:

ـ الرفيــق ماركيز (وشــدد على كلمة رفيق) هل جئــت لتزويدنــا مبعلومات سياســية؟ شــكرا لك. أجبني اآلن على ســؤال واحد فقط: إذا كانت كوبا تتمتع مبثل هــذه احلياة الســماوية والتعليم املمتــاز جــدا، فلمــاذا يعيــش أطفالك ويدرســون ليــس فــي كوبــا، لكن في الواليات املتحدة؟

اختنقــت املترجمــة الرســمية مــن الغضب. وقالت إنها لن تترجم هذا. أدرك ماركيز أن شــيئا غيــر متوقع قد حدث - وكان من الواضح أنه مهتم بذلك - صرخ في وجهها تقريبا:

أترجم ترجمي - لن ـ لكنــي أريــد أن أعــرف مــا قالــه، كان ماركيز قلقا بشكل واضح.

عندئذ كاد كارياكني أيضا أن يصيح في وجه زوجته إيرينا زورينا:

- ترجمي!

تــرددت إيرينا، وفجأة شــعر ماركيز بــأن هناك طريقــة للخــروج، وخاطب إيرينا صارخا :

-ترجمي

وبــدأت إيرينا بالترجمــة، رمبا ليس بسالســة املترجم احملترف، لكن بسرور كبير.

جتاهل ماركيز ســؤال كارياكني، لكن زوجته مرســيديس قالــت: «أطفالنا ال يدرســون في الواليات املتحــدة، بل في أوروبا. واصل كارياكني هجومه:

- حسنا، سأعترف: أنت كاتب حقيقي. قــرأت «مئة عام من العزلــة». رواية ممتازة. لدينــا أيضــا ســاحرنا األدبــي اخلــاص والواقعيــ­ة الســحرية - فاضــل إســكندر. لكن مــا ال أســتطيع فهمــه، كيف تــرددون عفــوا، مثــل هــذا الهــراء الدعائــي حــول النضال الكوبي من أجل احلرية في أنغوال؟ االقتصــاد في كوبا فــي حالة تدهــور تام. معداتنا متعفنة هناك، والقروض الروســية التي لن تسدد أبدا تذهب إلى اجليش، الذي على اســتعداد لدعــم «املراكــز الثورية» في أمريكا الالتينية وافريقيا. ويقول الكوبيون أنفسهم إنهم يرســلون جنودهم إلى أنغوال كما الروس يرســلون شــبابهم الى حمالت جني البطاطس».

قبــل االجتمــاع، كانت لــدى يوري كارياكني فكرة عن سلســلة املقاالت التي نشرها ماركيز في عام ،1977 عن «عملية كارلوتــا» املكرســة للتدخل العســكري الكوبي في افريقيــا. مقاالت كتبت بطلب مــن األخوين فيــدل وراؤول كاســترو. وجاء في إحدى هذه املقاالت: «حلمي هو أن تصبح أمريكا الالتينية كلها اشتراكية، وال ميكن التغلــب على جدار املعارضة إال بالقوة».

لــم يكن بقية املشــاركن­ي في االجتماع قلقني بشــأن «املراكز الثوريــة» بقدر ما كانــوا قلقني بشــأن اضطهــاد املثقفني في كوبــا، والرقابة القاســية املتزايدة واألســالي­ب الشرســة لالنتقــام مــن املنشــقني.، كانت قضية الشاعر الكوبي إيبرتو باديال معروفة جيدا في الوســط األدبي الروسي. فهو من مؤسسي احتاد الكتاب والفنانني الكوبيني. اعتقل في علم .1968 في البداية كان مؤيدا للثورة، لكن

بعــد ذلك، مثل كثيريــن، أصبح معارضا علنيــا لنظام كاســترو. كمــا مت القبض على زوجته الشــاعرة كوسا مالي، التي أجنبــت ابنهما في الســجن. طالب جان بول ســارتر، وخوليو كورتاثر، وماريو فارغاس يوســا، (وحتى يفتوشــينك­و الــذي تغنى بالثــورة الكوبية) والعديد مــن الكتــاب والسياســي­ني من شــتى البلــدان فيدل كاســترو باإلفــراج عن باديال وعائلته. لكن ماركيز اتخذ موقف التأييد لنظام كاسترو. وفي وقت الحق، أطلق ماريو فارغاس يوســا على ماركيز ـ صديقه املقرب في شبابه - لقب «خادم كاسترو».

مــن الواضح أن ماركيز لــم يكن يريد اإلجابة على األســئلة غير املريحة. فهو ذكــي وقــوي املالحظــة، أراد باألحرى أن يفهــم مــن أمامــه؟ وملــاذا يعارض احلاضرون فيدل كاسترو بشدة.

- ومــن أنــت؟ اســتدار ماركيــز فجــأة وبشكل غير متوقع نحو كاريكني. - كاتب؟ ما الذي كتبته؟ قال شــخص ما في الغرفــة - يوري كارياكني يبحث في أدب دوستويفسكي.

ـ دوستويفســ­كي؟ لطاملا اهتممت به. إذا كنت، يوري، تعرف دوستويفســ­كي حقا، اشرح لي مشهدا واحدا في « األخوة كارامازوف». عندما نزل ســميردياك­وف الدرج إلى الطابق السفلي متظاهرا بنوبة صرع. هل كان مصابا حقا بنوبة حقيقية؟

التغيير املفاجئ

لم يدهش كارياكني للتغيير املفاجئ في موضوع احملادثة، بقدر ما أدهشه السؤال اجلاد للغاية للكاتب الكولومبي، فأجاب بصدق وفرح.

ـ اســمع، من الرائع أن تكون مهتما بهذا. سأشرح اآلن.

وبدأت محادثة مهنية شيقة بني الكاتب والباحث الفيلسوف. بدا أنهما يتشبثان ببعضهما، ونسيا من حولهما.

عند الــوداع أهــدى ماركيز نســخا مــن روايته األولــى الصــادرة في عام 1955 «أوراق الشــجر الســاقطة» إلــى احلاضرين.

بعد عودته من موسكو، قال ماركيز في مقابلة صحافية مع مجلة مكســيكية، إنه التقى في موســكو في بلدة الكتاب كاتبا فوضويا مثيرأ لالهتمام، إسمه يوري.

املــرة الثالثــة واألخيــرة، التي زار فيها ماركيز روســيا كانت في عام .1987 حلضور مهرجان موسكو السينمائي. لقد مرت ثالثون ســنة بالضبط على زيارته األولى لروسيا عندما كان كاتبا مغمورا، أمــا اآلن فهــو كاتب عاملي حائــز جائزة نوبــل. في عــام 1957 كان محاوروه من املارة العشــوائي­ني، واآلن يتم استقباله من قبــل رئيس االحتــاد الســوفييت­ي ميخائيل غورباتشــو­ف. ترك هذا اللقاء انطباعا قويــا لدى ماركيــز، وفي وقت الحق حتدث أكثــر من مرة بتعاطف كبير عن زعيم بلد سريع التغير.

 ?? ?? ماركيز في موسكو
ماركيز في موسكو
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom