Al-Quds Al-Arabi

غنيمة السؤال

-

■ الغنيمة مفهوم حربي طوره االســتعما­ل للغة الســلمية لكن ال أحد فيما أعلم اعتبر الســؤال غنيمة. األســئلة غنائم في معنى أنها تفتح عليك بابا من األجوبة التي لم تكن تنتظره تســأل امرأة عجوز سائق احلافلة: هل أنت السائق؟ فيجيبها: بل أنا القائد. كان سؤالها غنيمة له ألّنه عّلمها أّنه وهو في مكانه الذي هو فيه حلظة الســؤال ميكن أن يكــون أفضل مقاما من املقام الــذي وضعته فيه العجوز. ال يكون الســؤال غنيمة إّال إذا أعطاك الفرصة لتثبت أّنك األجدر وأنت تبني اجلواب.

البالغيــو­ن القدامــى والبراغمات­يــون املعاصــرو­ن يكثرون من احلديث عن االستفهام ويهملون قليال أو كثيرا أداته التي يتكئ عليها وهي الســؤال. هناك فرق كبير بني االستفهام مبا هو أسلوب أو عمل لغوي، والســؤال مبا هو قاطرة ذلك األسلوب الذي ينقله من طريقة كالم إلى أخــرى، ودبابته التي يقود بها سلســلة الكالم ويحتل بها األراضي التي يريد.

ما يسّميه الفرنســّيون الســؤال البالغي وهو قريب ّمما نسّميه الســؤال اإلنكاري ميكن أن يكون ســؤال غنيمة. يقصد بالســؤال البالغي أنك تطرح ســؤاال ومتضي في اخلطــاب دون إجابة، ولذلك يسمى أيضا ســؤال املتحدث أو اخلطيب. ومن أمثلته التي يقدمونها له قول املسرحي والشــاعر الفرنسي جان راسني ‪Jean Racine‬ في مســرحية أندروماك: «آه! هل كان ينبغي لك أن تثق في عشــيقة حمقاء؟ ألم يكن حريا بك أن تقرأ في عمق أفكاري؟

يطرح الســؤال األول ودون انتظار إجابة عليه يثني بسؤال آخر وال ينتظر له إجابة. ما تراها ســتكون اإلجابة على من يقرع نفســه

ّّ ويضرب كفــا بكف على أنه صدق أن عشــيقته كانــت مدعية وأنها إلى جانب كونها مدعية كانت حمقاء؟ ســؤاله عن وجوب وقوع ذلك هو ســؤال من كان بــني جبرية وقدرية: بني من يعتقد أنه مســؤول في عشــقه عن اختياره ومن كان مجبورا على ذلك املســار. ال يجاب على الســؤال األّول ال ألّن السؤال خرج من إفادة معناه األصلي وهو االســتخبا­ر إلى معنى إنشــائي آخر هو التقريع؛ بل ألنه ليس لهذا السؤال جواب متعّقل فكّل أجوبته محاوالت عابثة تقرع السّن وَالَت َساَعَة َنَدٍم. الســؤال الثاني وعلى النقيض من األول ميكن أن يجيب عنه املســتمع، لكن إن إجاب كان اجلواب خطــأ تواصليا وانخراطا في ســوء الفهم إذ ماذا سيقول اجمليب؟ هل ســيجيب بالنفي فيمعن في اخلطأ؟ أم يجيــب باإلثبات فيمعن في الندم؟ فقد حصل ما حصل واكتشــف أمر العشــيقة زيفا وحمقا، ولم يقرأ من وقع في اخلطأ في العمق، بل ظ ّل سطح ّيا.

الســؤال غنيمة ال ترد هو غنيمة فكرية في حرب مع القلب خســر فيها العاشــق قلبه ووقته وتفطن إلى أنه كان يحارب وهو يعشــق طواحــني الريــح. الســؤال غنيمة في هــذه احلــرب، غنيمة وعي وانكشــاف للحقيقة وانقشــاع للضباب. الســؤال غنيمة ال ترد هو غنيمة ألنه حصالة جتربة حرب فاشــلة كانت من أجل الهيمنة على قلب خاو.. حرب كانت بعتاد وبسالح وبجيش عاطفي، واملدينة قلب احلبيبة النابض، كانت بال شعب بال أهل بال ثروات، كانت حربا على خريطة ليس لها في الواقع أرض متثلها. والغنيمة هي إدراك احلقيقة حتى بعد فوات األوان.

هي غنيمة أن يطرح املرء على نفســه سؤاال بسيطا كان تائها عنه وهي غنيمة أن يعرف أيضا كيف يصاغ الســؤال الذي كان تائها في مدن الزيف والبالهة. الســؤال غنيمة ثمينة، ألنه عقل اســترد وهو غنيمة ميكن أن يقايض بها قلب تائه كان يظن أنه أســير واحلّق أّنه كان طليقا.

هناك مدن للســؤال شعبها ال يفعل شــيئا من الصباح إلى املساء غير أن يسأل في املؤسسات: مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا هي مدن مص ّغرة للسؤال: يسأل املع ّلم تلميذه ودور التلميذ أن يجيب. وتصاغ املعارف في قوالب من األســئلة، ويظّل املتعّلــم يلهث وراء اجلواب، وحني ينجح يكون السؤال غنيمة، وحني يرسب يكون السؤال أيضا غنيمة. الســؤال الذي ليس له في االمتحان املدرســي جواب غنيمة عرضت نفسها ولم يستطع الفارس التلميذ أسرها فتعود إلى سادتها حزينة. الســؤال الذي ينجــح املمتحن في إيجــاده غنيمة عرضت نفسها وفازت بآســرها. يصبح الســؤال هو الغنيمة، ألن مدرستنا تعّلمنا كيف نأسر الســؤال ونتغّلب عليه باجلواب، وال تعلمنا كيف نصنع نحن السؤال. ما زال سؤال» إلى أّي مدى؟» في اإلنشاء يبلبل على كل ممتحن ذهنه.. هذا سؤال عن املدى لكن ليس له مدى.

هناك مدن مينع فيها الســؤال ألّنه مثير للفنت. املعارضة فيها ترمى بلعنة الســؤال. في مدن الســلطة املطلقة الســؤال ينتج من طرف وحيد: من أنت؟ ما اســمك؟ هل أنت منتم؟ ماذا تفعل هنا؟ ما عالقتك بفالن؟ وغير ذلك من األسئلة التي ال تستطيع أن جترد األشياء مثلما يفعل ذلك شعب جمهورية الفالسفة وإمبراطوري­ة العلوم.. من أنت؟ في مدن التســلط ســؤال يحوي غنيمة، ألنك مهما أجبت فأنت أسير حرب إن قلت: أنا فالن فأنت لم تضف شــيئا ألنهم يعرفون من أنت، إّنما الّســؤال غنيمة أولى تبشر باإليقاع بك. في مدن الفكر سؤال من أنت؟ قض ّية مه ّمة منطلقها ع ّينة هي أنت ومنتهاها جنســك اجمل ّرد من هوياته الصغرى أو الوســطى.. السؤال غنيمة أولى حتى تخرج عن ذاتك إلى نوعك إلى جنسك.. وفي العلم ال معنى لسؤال من أنت؟ هو غنيمة فاســدة عليك أن تتركها وتبحث عن غنائم أكثر قيمة من نوع افتراضي أو شــرطي: إن أضفت للســكر ملحا ونقعتهما في املاء هل يتغير اللون؟ هل السكر غنيمة امللح أم امللح غنيمة السكر؟

االســتفها­م شــيء آخر متاما هو األرض التي عليها جتمع الغنائم عند احلرب. االستفهام ال يوجد إال في اخلطاب، ومهمته فيه أن يكسر رتابة أســلوب آخر هو اخلبر أو التقرير. يبدأ الكالم سردا أو وصفا حتى يأتي االســتفها­م.. يكون اجلّو صحوا مشرقا وتخّيم على سماء اخلطاب غيمة الســؤال ونغمته. حني يأتي الســؤال في االستفهام تتغير النغمة، ويتغير اللحن الرتيب وتقرع طبول احلرب فالفرق بني (أعجبني الشاي) و (أأعجبك الشاي؟ وهل ترغبني ببعض احلليب؟ وهل تكتفني كما كنت دوما بقطعة ســكر؟) ليس فقط في أن الكون في األول ســابق لإلنشــاء وفي الثاني الحق، بل ألن النغمة قد تغيرت من نغمة من يســرد شــيئا قد فات إلى نغمة متفجــرة تريد أن تقرع ناقــوس الوالدة وناقوس خلق الكون.. حني تكونني مع من يســألك أأعجبك الشــاي؟ عليك أن تفكري في اجلواب ال في الشــاي سيكون اجلواب على مذاق الســائل ال على طعم الشــاي. أأعجبك الشــاي؟ في أسلوب االســتفها­م ليس سؤاال؛ هو طريقة حديث وليس السائل معلما ميتحن، أو شرطيا يستجوب، في الكالم اليومي أو األدبي حني يأتي االســتفها­م عليك أن تكون مستعدا كي تفكر وتشعر وتختار به ما جتيب.. ماذا ســتقولني ملن دعاك إلى جلسة شاي حني يسألك هذا السؤال؟ حتما ســيكون السؤال غنيمة عليك أن توزعيها بعدل بينك وبني من جلبها إليك: إن قلت أعجبني الشاي فذلك يعني أنك خسرت الغنيمة ألّن الشاي ليس إّال رمزا لقصة كانت ستطول بنوع اجلواب.. إياك أن تنزل عندما يطرح عليك ســؤال في احملطة املقبلة.. الســؤال كالغنيمــة ينبغي أن تخوض غمار حرب مــن أجل أن جتلب اجلواب املناســب له.. عندها يعود الكالم إلى رتابته إلى جريانه وكأن شيئا لم يحركه.. وكأّن السالم كان أبدّيا ولم تدّق طبول السؤال.

٭

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom