أقاصيص «نظرة أخرى»: القصة القصيرة واستراتيجية التوسع
■ وسمت الرواية في الدراسات اجلديدة بكونها جنســا إمبرياليا، يلتهم كل مــا يعترضه من أجناس وخطابات، قدمية وجديدة، أدبية وغير أدبية. ويبدو أن هذه الصفة لم تظل حكــرا على اخلطاب الروائي، بل صار التنوع والتعدد األجناســي مظهرا بارزا في أجنــاس مختلفة، ومن بينها القصــة القصيرة، التي ميــارس خطابهــا أيضا هــذا اخلطــاب املهيمن على بقية األجناس، حتديدا منذ بروز املوجات التجريبية اخملتلفــة، وتعالــي نــداءات التجريــب والتجديد أو احلساســية اجلديــدة (ونحن هنا نحيــل إلى كتاب أدوارد اخلــراط الــذي اهتــم فيه مبظاهــر التجريب في القصــة العربيــة القصيرة). فالنــص القصصي يلتهم أجناســا كثيرة، وهو ما يجعــل صفة اجلنس اإلمبريالــي صاحلــة أيضــا للقصة القصيــرة. فهي جنس ميارس التوســع وميتص مــن خطابات كثيرة أشــكالها وأســاليبها. وهــو مــا يبــدو فــي أعمــال قصصية كثيرة، اتســمت بالتنويع والتلوين الشكلي واستدعاء أجناس أخرى.
ولعــل مجموعــة «نظرة أخــرى» لســمير بن علي تشــكل مثاال على هذا اخلطاب وعلى توســع القصة القصيــرة وممارســتها للعبــة التعــدد األجناســي. فالشــكل القصصــي في هــذه اجملموعــة يندمج مع املســرح والشــعر والرســائل والبالغات الرســمية والعســكرية، وغيــر ذلــك مــن األجنــاس. واملتخيل القصصــي ميتــزج بخطابــات التاريــخ واخلرافــة والســيرة والسياســة. وهو ما نتتبع مناذج منه في بعض القصص.
األجناس االفتراضية
يتفاعل القص مــع الثورة االتصاليــة وخطاباتها ويحاول توظيــف تقنياتها، فنجد إشــارات مختلفة إلــى «فيســبوك» والبريــد اإللكتروني. ومــن مناذج ذلــك قصــة «فايس بــوك» التــي يســتدعي عنوانها هذا اخلطــاب، فموضوعها محور األفعال الســردية لشــخصياتها. لكن فيســبوك ال يحضر كطارئ على األســرة، يجب درسه والتوعية مبخاطره، بل يحضر خطابا له تقنياته ومفرداته: حدثني عن نفسك ماذا تعمل؟ أين أنت؟ أنا معك. أنا مسرحي أشكو الوحدة... ليس أكثر مني...» وتســجل هــذه القصــص أيضــا حضــورا الفتا للفنون.
األجناس الفنية
يوظف الكاتب فنونا مختلفة. فال تخلو أقاصيصه مــن حضــور للخطــاب املســرحي والســينمائي واملوســيقي. فقصــة «فايــس بوك» ترد على شــكل كتابة سينمائية. فهي سبعة عشــر مشهدا متتابعا، تظهر عليها تقنيات الكتابة السينمائية:
«املشهد السادس عشر (ليال داخلي) يغادر األب غرفة البنت متجها إلى الصالة ويطل رأس االبن باسما. املشهد السابع عشر (ليال داخلي) تظهر غرفة االبن وعلى املكتب احلاسوب وعليه صفحة احملاورة مع األب...»
وأمــا في قصــة فك احلصــار فتلوح منــذ البداية أســاليب الكتابــة املســرحية وتقنياتهــا مثــل اإلشــارات الركحيــة واحلــوار. فتفتتــح القصــة باإلشــارات الركحيــة التــي يحدد خاللهــا الكاتــب مالمــح الفضــاء املسرحي من مكان وزمان وحركة شخصيات:
«املــكان»: القصــر امللكــي لعاصمة مملكة خورستان
«الزمان:» الصباح الباكر في سلسلة الزمن
«الشــخصيات: ســتتدافع على الســطح بــال ترتيب غير ضرورة الظهور
قبل أن يرفع الستار يدخل الوزير األول مرتبكا».
هــذه اإلشــارات الركحيــة تضيء مالمح النص املســرحي الكامــن في القصة. بدعمهــا مصطلح ســتار الــوارد في املقطــع الفارط، إضافــة إلــى احلــوار املســرحي املتطــور ومتعــدد األطــراف. وفي إطار هــذا التقارب الســردي الفني، يبدو حضور املقاطع املوســيقية والشعرية على غرار هذا املقطع لعبد الوهاب الدوكالي. أال أونو.. األدو.. األثري مني يفتح املزاد.. مني يشري مني مني.. مني.. إن هــذه األقاصيــص تلــوذ باخلطابــات الفنيــة اجلماليــة وتربط معهــا أواصر مختلفــة، ولعل ذلك يــرد في ســياق تكامــل الفنــون وتفاعلهــا وتقارب العوالــم اخليالية. لكن القصــة القصيرة تتجه أيضا إلى األجناس املرجعية.
األجناس املرجعية
تتعدد في هذه اجملموعة مظاهر حضور األجناس غير التخييليــة مثل، الصحافة والبالغات الرســمية ووثائق االختبارات. في هذا اإلطار نســجل حضور اخلطــاب الصحافــي الذي جنــد مظاهــره في قصة «املقال» وفي قصة «فك احلصار» أيضا. ففي القصة األولى يبدو هذا األســلوب من خالل مقطع تلخيص املقال الذي كتبه الصحافي وكشف خططه وأدواته. «وضــع أمامــه األوراق البيضاء. فألقــى قلمه ميخر عبابهــا. بدأ بتقدمي مســيرة وحيــد الغربــي وعالقاتــه بالصحافــة وثناهــا بتقدمي ألعمالــه التــي أثــارت ردود فعل عنيفة في املــدة األخيرة مبا تقدمه مــن رؤية فلكلورية ســطحية عــن البــالد ودعــوة ســافرة إلى التطبيــع الثقافي مــع العــدو الصهيونــي حتــت شــعار التعــرف إلــى ثقافــة اآلخر، والتســامح الديني ونبذ االنغــالق واملبالغــة فــي جلــد الذات».
أمــا في «فك احلصار» فنجــد تقريرا صحافيا من خالل مراسلة لصحيفة أجنبية:
« الساعة 6 من بدء العملية املسماة بفك احلصار تفيد آخر املعلومات التي حتصلنا عليها، أن قوات الشرطة واجليش التي تدخلت إلجبار السكان على االلتحاق مبواطن العمل». وفي هذه القصة نفسها تبدو لنا مقاطع من البالغات الرسمية أولها تقرير من قائد قوات الشرطة والثانية من أمير اللواء زيد القائد العام للقوات البرية إلى وزير الدفاع».
«لقد أرســلنا القوات بحســب األوامر. تقودها قوات الطالئع واملظليني».
أما في قصة الرحلة فيطالعنا خطاب االمتحانات وأسئلتها:
من أسس قرطاج؟ من قاد احلرب البونيفية الثانية ضد قرطاج؟ في أي سنة دمرت قرطاج؟»
وأما في قصة تأشيرة فيلوح لنا خطاب الرسائل الــذي ينتمــي إلى األجنــاس الســيرذاتي. من خالل رسالة كارالدي تشيني من فينيسيا:
«عزيزي أحمد... أعرف أنك ستستغرب رسالتي اآلن بعد ست سنوات من لقائنا ليست املرة األولى التــي أكتب إليــك، لكنني منذ ســنوات وأنا أكوم رســائلي في صندوق خاص وهذه املرة قررت أن أرسل إليك هذه األوراق».
ميكــن القــول إن الكتابــة القصصيــة عند ســمير بن علــي فــي مجموعته نظــرة أخــرى، تبــدو ميالة إلــى امتصاص أجنــاس أخرى وتوظيــف تقنياتها. فهي قصص مشــبعة بأجناس وخطابــات مختلفة. تســتدعي إلى عواملها اجلمالي والتخييلي من مسرح وســينما وموســيقى، وال تغفل األجنــاس املرجعية مثل الصحافة والبالغات الرســمية، بل تقحمها في نســيجها، لذلك ميكن القول إن هذه اجملموعة تكرس مــا ذهبنــا إليه مــن كون القصــة القصيــرة أيضا، ال تخلو من توسع وإمبريالية. وهي تلجأ إلى األجناس األخرى لتشكيل خطابها.