Al-Quds Al-Arabi

شارب أتاتورك

- حيدر احملسن ٭ كاتب عراقي

■ تقــع مدينة خانقني في اجلهة الشــرقية من العراق، وترتوي أراضيها مــن نهر الوند الذي يتحــدر من جبال زاجروس في إيران، ويبلغ طوله من منبعه إلى مصبه 150 كيلومترا، ويقسم النهر (الذي ُيســّمى أيضا نهر حلوان) مدينة خانقني إلى جانبني يربطهما جسر الوند احلجري، الذي شيدته أميرة فارســية في املاضي القدمي من أجل أن يعبر احلجاج إلى الضفة الثانية من النهر، وكانوا يجدون مشــقة عظيمة بســبب تدفق املياه الســريع والعنيف.. وأمســكتها مرة موجة عالية وكادت تغــرق املركب الذي ينقلهــا، ونذرت األميرة لو أنها جنــت، أن تبني في املكان جسرا يسير عليه اُحلجاج على أقدامهم. وكنُت مسافرا في ذلك اليوم إلى هذه البلدة، خانقني، وشاهدت مجلس عزاء تقوم به النسوة في املدينة ألحد «املربني الفاضلني» حسب تعبير الالفتة املرفوعة على اخليمة املقامة (السرادق) على رصيف الشــارع املوازي للنهر. كانت الثياب الســود هي حلة اجلميع، والنسوة يجلســن على مقاعد مصفوفة في جانبي اخليمة، ثقيالت القلوب باحلزن املأمتي الذي ألقى حولهن ظالال بنفســجية اللون، وتقول املرأة في خانقني عــن حزنها مثلما تتنّهد الّنبتة، إذا قلــت عن النهدات إنها تشبه زهورا بيضاء، فلست ممن يرغبون بلغة الشعر في هذا املقال، لكن عبق األزهار الكثيف الذي كان ميأل الشارع يرفع ما شهدته، وما أزعم به اآلن، إلى درجة اإليقان.

املرة األولــى التي كابدت فيها املــوت كانت في صورة أّمي، وكنت حينذاك طفــال، وكانت تتهّيأ للذهاب إلى مأمت خالي الذي مات صبّيا بالداء اخلبيث. شّقت صرختها في تلك اللحظة ســقف بيتنا، وهي متسك بســماعة الهاتف، وتتلّقى الّنبأ. صــار كّل الهدوء في البيت معكوســا، كأن جلبة وحش املوِت دخلت فجأة وحطمت السكينة. دقائق، وعادت احلياة إلى ما كانت عليه، عندما ارتدت أمي ثوبها األســود الفضفاض والواسع -الهاشــمي- ووقفت ترى نفسها في مرآة «الكومودينو» نفسه الذي يحمل الهاتف. لقد غاص حوت املوت في أعماق بحر ثوبها، واختفى. كنت أملح في األثناء أخاديد سوداء تتماوج في شمس النافذة، وتنعكس من النجيل في حديقة البيت. وصارت لي قناعة منذ ذلك الوقت بأن اللون األســود في ثيــاب املرأة ليس حداد ّيــا وال مأمت ّيا بامل ّرة. فهو يحمل في ّجلته ملعة شــعلة خضراء، وعلى هذه الشعلة تراهن احلياة، وأمها املرأة.

تقيم النســاء في اجملتمع احلضري في العراق مجالس العزاء فــي البيت عادة، وصورتها تشــبه ما مر ذكره في مجلس العزاء في خانقني. أما الطقوس في الريف العراقي فتختلف كثيــرا. تفتتح املرأة األقرب إلى املتوفي املشــهد بطريقة مسرحية: تشق ثوبها أوال وسط العويل، وتنفش شــعرها، ثم تأخذ وهي نصف عارية في رقصة وجدانية عنيفة، وتضرب بكفيهــا على صدرها وذراعيها ووجهها..

كما أن النساء القريبات لها يتقابلن معها، ويتبارين في ما بينه ّن عند أداء هذه الرياضة اإليقاع ّية التي تت ّم على شدو املرأة املنشدة (القوالة) وكأن عنف املوت يجب أن جتابهه أم احلياة بالرقــص العنيف وبالِشــعر والغناء، وتكون الزعامة للشــديدة منهن على املوت، فيستقر عندها احلال بني احليــاة واملوت؛ ال غالب وال مغلوب. ال شــيء يوقف تيار العاطفة شــديد القوة هذا غير التعب. ثم تســتريح النسوة، يأكلن طعاما سمينا ودهينا وطيب املذاق، وتعود النساء إلى اللطم والرقص والنياحة. هل يبلغ حزن املرأة على فقيدهــا نهايته؟ بعد أيام العــزاء التي تدوم أربعني يوما، حتافظ النســوة عادة على حداد صارم هو خالصة تراكم حداد ال حصر له. مرّبو اجلاموس الذين ُيعرفون في العراق باسم «املعدان» يطول زمن حدادهم على امليت إلى أجل غير محدود، ويوصف املأمت الذي ال أمد له بأنه «حزن معدان».

يقول املثل الروســي: «احلياة ليست نزهة في حديقة» وكان مكتوب علي فــي أحد الليالــي أن أواجه املوت في أبلغ صــوره. املرأة التي كانت حتتضــر قريبة إلي، وهي في عمر الشــباب. أيقظوني في ساعة بعيدة من الليل كي أعاينها. األزرق هو لــون العذاب واأللم، وكان في وجهها االثنان. وفزعت مــن رؤية اآلثار التي تركها الوحش على وجهها، إلى درجــة أني ارجتفت حتى نخــاع عظمي. ثم جالت عيناي فــي الغرفة، وواجهتني مــرآة الزينة التي تخّص املرأة املتوفاة، وكانت قد أغلقت درفتيها، وغّطتهما بستار، وشدت في موضع اإلغالق عقدة. كانوا يعتقدون في ســالف السنني أن عليهم جلم مرآة املتوفى من أن ترى أحدا آخر، وتطلبه. آثرت املرأة (وكان اســمها زهرة) أن تقوم بهذا العمل بنفســها، كي حتمي الباقني من شراســة الغــول. يدعو أرســطو املوت فــي عمر الشــباب باملوت اجلليــل، والصبّي والطفــل ّملا يفارق احليــاة يقول عنه الناس في بلدي بأنه «ابن آخره» أي ابن احلياة األخرى، الباقية، وهــو أبلغ تعبير يصفها، فال يدخلها إال من ميتلك قلبا وبدنا سلي َم ْين.

ال ميكــن احلديث عــن أي بلدة دون ذكر متســوليها. وشــحاذو خانقني عجائز يجلســن عند جانب السوق. إنهن نسوة على األغلب، وممتلئات بالقناعة أي الرصانة القدرية املطلوبة في حالة الَفقــر واإلعواز، يلفّهن صمت بطولــّي يبدين فيه مثل متاثيل شــمعّية. ال يســألن، وال يطلنب شــيئا، كأنهن استخدمن أســاليب الكدية أعجب استخدام. استخدمنها بعدم اســتخدامه­ا! الناس في كل مكان يزخرون باحلكايات املدهشــة، حتــى أولئك الذين يبــدو عليهم أن شــيئا لم يحدث لهم أبدا. شــاب يجلس متربعا علــى الرصيف ويبدو عليه الفقر، متدّثرا بعباءته حائلة الّلون، وأمامه جواالت الكرفس والفجل والكّراث، وفــي عينيه نظــرة متأملة طويلــة. لكن أهم مــا في هذا املشــهد هي سحنته الشــقراء احلمراء الالمعة، وشاربه األسود املعقوف بصورة حادة إلى أعلى؛ شارب اجلنرال

أتاتورك. هل تسكن داخل هذا الفالح البائس قصة؟ لكنني مررت به في ساعة الفجر، ثم غادرته، فكيف تقوم حكاية من هذه الصــورة وحدها؟ تناولت فطــوري على عجل، وعــدت إلى املكان الــذي التقيت فيه الشــاب. لم أجده، وجواالته في مكانها. قلت أنتظره في املقهى القريب، حيث يتناول عمال املزارع القادمون من البســاتني طعامهم. ال يوجد أحد هنا غير شاّب طلق احملّيا ِببنطال أبيض اللون و»تي شــيرت» برتقالي، وكان يتنــاول فطوره، بيضتني مســفوحتني مقليتني مع قدح كبير من الشــاي، ويستقر على الطاولة قربه هاتفــان من النوع احلديث. هو الفالح نفسه، عرفته من شاربه املعقوف، شارب أتاتورك، وكان يأكل على مهله، مســتغرقا عميقا فــي داخله، وفي عينيه النظــرة املتأملة التي مّيزتها وأنا أمــّر به في الفجر. كنت أمام شخص لديه قصة ترويها مالمح وجهه ونظرته التي فيها رزانة أبدية، لم تثلمها وال مبقدار ذرة ضفيرته...

اكتملت قصة الشــا ّب مــا إن تب ّين ُت ضفيرته ســوداء اللون، وكانــت تبلغ منتصــف ظهره. هو عاشــق إذن، وغندوٌر وفّلاح وله شــارب اجلنرال أبو األتراك. يا َلسعد أّمه بطالعه إذن، ويا َلسعدي ألني رأيته، ويا َلسعدكم...

يقــول غوته: «في ظالل النخيــل، ال يجوز التنزه على صهوات اجلياد» وهكذا ال تستطيع عبور اجلسر احلجري في خانقني، إلا سيرا على القدمني. الوقت كان آخر النهار، والشــمس تشــبه برتقالة ضخمة تهبط فوق البساتني. عبرت اجلســر مرة، وفي الثانية عــددت أعمدته املبنية من احلجارة، وكانت عشــرة، لكّل منها عطفة تّتســع في األعلى، وتصير فسحة بهيئة قوس يستريح فيها اُحلّجاج الذين يقصدون مكة أو كربالء، ألن هذه األرض تقلبت بني املذهبني ال ّس ّني وال ّشيعي، ولس ُت من هواة البحث في هذا احلقل الذي ال أراني أتنفس فيه الهواء...

لو أن الســيدة اجلليلــة التي بنت اجلســر صحت من نومتها الطويلة، الرتعبت من مشهد الكالب اخلمِسة التي تعبر النهر أمامي مشــيا على األقدام، بعــد أن جف النهر تقريبــا، ألن اإليرانيني حولوا مجــرى منابعه إلى داخل تلــك البالد. التقطت أكثر من صــورة... أحد الكالب، وفي اللحظة التي اســتقّرت صورته في هاتفي اجلّوال، شــّم رائحة أفكاري من بعيد، وأخذ ينبح.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom