Al-Quds Al-Arabi

هل حتل «العلمانية» املشكلة اإليرانية؟

- د. مدى

إن كانت حادثة مقتل الشــابة مهسا أميني عقب احتجازها بواســطة «شرطة األخــالق» علــى خلفية احلجــاب غير املكتمل، أشــارت إلى الظلــم الواقع على النســاء في ظل النظــام الديني اإليرانــي، إال أن احملتجني، املســتمري­ن في التظاهر على مدى أسابيع، سرعان ما وسعوا دائرة الغضب، للتذكير بفشل النظام السياسي واالقتصادي، وباملعاناة وانعدام األمل اللذين يعيش فيهما الشباب. الحقا وحني دخلت مجموعــات عرقية كانت تعانــي من التهميش على خــط االحتجاج، أصبح األمر أكثــر خطورة وفي حدود ال تقتصــر على مناطق أو أنحاء معينــة. الوضع اليوم يزداد حرجا، فحتى أولئــك الذين كانوا يتحدثون عن ثبات النظام وخبرته في مواجهة احتجاجات مماثلة، أصبحوا قلقني اآلن،

بل وصل األمر ببعض «املرجعيات» إلى النأي بأنفســهم عن سياسة القمع املفرط، التي لم تنجح سوى في زيادة الغضب.

كالعــادة اتهم النظام الــدول الغربية بالتــورط في دعم االحتجاجــ­ات، وهو أمــر يصعــب التحقق منــه، حتى مع اســتعراض اإلعالم الرسمي لشهادة فرنســيني واعترافهم بالضلوع في تنســيق حركة التظاهر. األكيــد هو أن اإلعالم الغربي ال يخفي تضامنه مع الشارع الغاضب، وأمله أن تقود هــذه االحتجاجات لتغيير النظام. هــذا األمل ال يقتصر على الدول الغربية، فأغلب جيــران إيران، خاصة من الدول التي عانت من تدخالتها املباشــرة أو غير املباشــرة، يتمنون أن يتم استبدال النظام بنظام أكثر اعتداال وأكثر اهتماما بشأنه الداخلــي ومبعيشــة مواطنيه، بل ميكن القــول إنه يصعب التفكير، حتى حينما يتعلق األمر باحللفاء، في شريك حريص على استمرار نظام الولي الفقيه بشكله احلالي.

مع ما ســبق إال أن علــم السياســة يخبرنــا، أن العامل اخلارجــي ليس حاســما دائما حينما يتعلــق األمر بحدوث تغييــر، فاألمر ال يدخل دائرة اخلطورة إال حينما يفقد النظام شــرعيته الداخلية ومنطق بقائه، وهو مــا يظن البعض أنه بدأ بالفعل، حيث تنقل مقاطــع الفيديو، أن احملتجني صاروا يعبرون عن رفضهم لرموز املؤسســة احلاكمة وعلى رأســها املرشــد األعلى علــي خامنئي، عبر اإلســاءة إلــى صورهم ومجسماتهم، بل إن األمر تعدى ذلك إلى التجرؤ على اإلساءة لإلمام اخلميني مؤسس «اجلمهورية اإلسالمية» نفسه، حيث متكن محتجون من إشعال حريق في بيته وبث صور احلريق في وسائل التواصل االجتماعي. تنقل املقاطع كذلك جترؤا من نوع جديد يتمثل في اإلساءة إلى طبقة «املعممني» ومالحقتهم في الشــوارع، مع مناداتهم بأبشــع األلفاظ في تقليل متعمد ملكانتهم وهيبتهم. مشــاهد اإلســاءة إلى احلجاب تدخل في هذا الباب أيضا. يبدو اإلعالم الغربي معجبا جدا مبظهر نزع احلجاب وحرقه، فهو يقرأ هذه الصورة، ال على أســاس أنها مترد سياســي على نظام كهنوتي فريد مــن نوعه في العالم اإلســالمي، وإمنا على أساس أنه يقدم شــاهدا على النظرية الغربية التي ترى أن املسلمات هن في األصل مجبورات على احلجاب وأنه مبنح احلرية لهن، أو بزوال السلطة اخلارجية املؤثرة والضاغطة عليهن، فإنهن سرعان ما يخترن السفور.

في احلقيقة فــإن كثيرا من الشــباب اإليرانــي ال يعيد فقط مســاءلة احلجــاب، وإن كان هذا هو أكثر مــا يظهر لنا، لكن مسائل أخرى من قبيل اقتســام ثروة املواطنني ووضعها في جيوب أقلية متلــك وحدها حرية التصرف بهــا، أو من قبيل تبرير زواج املتعة وجعله أشــبه بوسيلة للتقرب إلى الله، أو من قبيل التناقض في املنهج بني رفع راية اإلســالم والتقليل من شــأن صحابة كبار، كل هــذا، بجانب التفــاوت الطبقي امللحوظ بني العوام الكادحني واملعممني املقربني من السلطة، كان يؤدي على مدى الســنوات إلى كفر بهذه املدرســة، التي حتمل أصحابها علــى مواصلة حروب تاريخية وعبثية، تارة حتت راية أخذ الثأر ملقتل احلســني بن علي، وتارة بســبب االنتقــام العرقي أو اســتعادة األمجاد الفارســية. ما حدث في كأس العالم من رفض املنتخب اإليراني إنشــاد النشــيد الوطني كان الفتا أيضا، ففي األحوال العادية ال يكون نشــيد العلم مادة للخالف، لكن العبي الفريق أرادوا إرســال رسالة مفادها، أن دولتنا مختطفة وأن نظامهــا لم يعد ميثلنا، وإذا أخذنا في االعتبار أن هــذا الفريق مت اختياره بعناية لتفادي مثل هذا النوع من اإلحراج، ميكن أن نعرف كيف أن األمر صار واسعا وخطيرا.

رمبا يســتطيع النظام أن يصمد في وجه االحتجاجات كما كان يفعل دائما، فبخالف اجليــش اجلاهز للتدخل والقوات األمنية األخــرى هو ميتلك «احلــرس الثوري»، امليليشــي­ا املرتبطة بالنظام بشــكل عضوي، والتي سوف تستميت في الدفاع عــن بقائه ألســباب، منها ما هو عقــدي ومنها ما هو اقتصادي يتمثل في ســيطرتها وحتكمها في ما يقدر بأكثر من نصف موارد البالد. إال أن هذا يجب أال مينع املهتمني من دراسة سيناريو الســقوط املفاجئ وتأثير ذلك في املنطقة. هنا يجب أن نضع في االعتبار ما اســتفدناه من خبرة عربية مفادها أن التغيير السياسي قد ال يقود األوضاع بالضرورة ملا هو أفضل بالنسبة إليران، وإذا كان باإلمكان تلخيص كل االعتراضات على النظام فــي أيديولوجيت­ه الدينيــة، التي جتعله يدخل في معارك خارجية غير ضرورية وينفــق الكثير من األموال على جتنيد ميليشــيات وكســب داعمني، كمــا جتعله يثير الغضب داخليا، بالتدخل في أكثر شــؤون الناس خصوصية وبالتفريق بــني األديــان واملذاهب، فإن الســؤال املطروح

ســيكون: هل حتل والدة دولة جديدة، «علمانية»، املشــكلة اإليرانيــ­ة؟ تبدو الفكرة، التي يدعو لهــا كثيرون في الداخل واخلارج مغرية، ففي إيران وصل التشابك بني ما هو سياسي ودينــي حالة من التماهــي، أصبحت العمليــة الدميقراطي­ة مبوجبها فاقــدة للمعنى بعد أن حصرت اجملــال العام فيمن يدينون بالــوالء لثوابت النظام العقدية. الفكرة مغرية أيضا أخذا في االعتبار، أن إمكانية اإلصالح وفق البنية السياسية احلالية تظل شــبه معدومة، فوصول صوت معارض بشــكل حقيقي، أو ناقد نقدا جوهريا للنظام، ألي منصب مؤثر، يبدو مستحيال في ظل «الفلترة» التي يتم مبوجبها ترشح واختيار املتنافسني، ما يضع الناخبني أمام خيارات محدودة وأسماء قد متثل وجهات نظر مختلفة، لكن ضمن التوجه العام. يجعل هذا من التفريق الشــهير بني «األصوليــن­ي» و»اإلصالحيني» أمرا بال معنى حقيقي في الواقع.

دولة محايــدة إزاء األديان قد تكون مغرية أيضا لألقليات الدينية، التي ترى نفســها مظلومة ومهمشــة في ظل الوضع احلالي، وهو ما يشمل أهل السنة الذين يرون أن نظام احلكم في الفترة التي سبقت العهد اخلميني كان، مع وجود سلبيات فيه، أكثر انصافا لهم، حيث ساوى بينهم وبني غيرهم، وكان مينحهم حرية أكبر في ممارســة شعائرهم. املشكلة تكمن في أن العلمانية هي الفتة براقة، لكنها كبيرة وواســعة، ويكفي أن نشــير هنا إلــى أن علمانية عادلة ومتوازنــة في عالقتها مع الدين، أصبحت مثار نقاش فلســفي وسياسي في الدول الغربية ذاتهــا. في احلالــة اإليرانية تخبرنــا التجارب أن علمانية مشــغولة بالتضييق على املتدينــن­ي وحرمانهم من حقوقهم السياســية، علــى طريقة بعــض دول املنطقة، لن تعمل سوى على اســتمرار االحتقان، وكذلك احلال بالنسبة لعلمانيــة ال تخفي انحيازها لعــرق أو عقيدة، كما يحدث في بعض املمارسات اآلسيوية.

لكل ما ســبق فإن هذا الســؤال هو أعمق مما يبدو لدرجة تصبــح معه اإلجابــة اجملردة بنعــم أو ال غيــر كافية وغير موضوعية.

العلمانية الفتة براقة، لكنها كبيرة وواسعة، ويكفي أن نشير إلى أن علمانية عادلة ومتوازنة في عالقتها مع الدين، أصبحت مثار نقاش فلسفي وسياسي في الدول الغربية ذاتها

*كاتب سوداني

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom