مشهدية «الفرجة»... لعبة فوتبول في باب الساهرة في القدس عام 1902
األرشيف الفوتوغرافي ملؤسسة الدراسات الفلسطينية
قالت مؤسســة الدراسات الفلســطينية إنها مبناسبة انطالقة مونديال كرة القدم في الدوحة نشــرت صورة نادرة قد تكون األولى من نوعها في فلسطني، ورمبا في بالد الشام، للعبة فوتبول في باب الســاهرة في القدس، التِقطت في ســنة ،1902 حسب سجالت أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أي قبل 120 عاما.
وحســب تقرير املؤسسة ظهرت الصورة ألول مرة في كتاب «قبل الشتات» للمؤرخ الفلسطيني البروفيســور وليد اخلالدي، وهي من مجموعة املؤسســة املســتحوذة من جامعة أوكســفورد (أرشيف كلية سانت أنتوني). متتاز هذه الصورة بإبرازها بدايات احلداثة املشــهدية في حواضر فلســطني العثمانيــة. وتظهر الصــورة جتمعا لرجال ونســاء خارج أســوار املدينة، حلضور مشــهد رياضي ال عالقة له مبواكب األعراس، وال باملواكب الدينية، وال باالحتفاالت املوسمية، وال بالتجمعات العسكرية التي كانت الدولة تنظمها، فهي فرجة مشهدية بامتياز، يختلط فيها النساء والرجــال واألطفال، جمهور املشــجعني براحة، ومن دون مرافقة أجهزة الدولة، كما هو معهود في مهرجانات النبي موسى، أو مسيرات النبي روبني في تلك الفترة التاريخية.
ويعكس لباس املشــاهدين املتفرجني اختالط أمناط متفاوتــة من اللباس التقليــدي باللباس األوروبي الوافــد (القبعة والطربــوش، وأيضا العمامــة للرجال، والفســتان واملالية والعباءة للنســاء)، أمــا الالعبــون فيرتدون الشــورت الرياضي، إيذانا بغزو الرياضة احلديثة.
وطبقا لهــذا التقرير كانت تقام هــذه املباراة في أطراف مقبرة باب األسباط اإلسالمية، حيث يرتكز شــابان يرتديان القمبــاز والطربوش مع البدلة األوروبية على شاهد قبر، وال ندري ما إذا كان املصور اجملهول اختار هذا اإلطار للصور من أجل إبراز تناقضات املشهد أم ال.
أما املكان فهو الســاحة العمومية في شــمال املدينة (باب الســاهرة) في مقابل البناء احلديث للڤلل احلديثة للبورجوازيني املقدسيني القادمني من البلدة القدميــة إلى امتدادات املدينة احلديثة خارج السور.
ويالحــظ تقريــر مؤسســة الدراســات الفلســطينية هنا أن هذه الڤلــل ما زالت في طور التكويــن والبنــاء، وهــي محاطة في شــمالها بقصور آل احلســيني وقليبو وجار الله والعلمي والنشاشيبي وغيرهم في وادي اجلوز، والشيخ جراح ومنطقة سعد وسعيد إلى الغرب منها.
مــا هو اجلديــد في هــذه الصــورة، وأيــن تكمن أهميتها؟
عن ذلــك تقول املؤسســة: «الفرجة» ظاهرة قدمية في ثقافات الشــعوب، وقد مت توثيقها في بالدنا منذ القرن التاســع للميالد. مثال في أعمال اجلاحظ «احليوان»، و«البخالء»، وفي «رســالة في اجلد والهــزل» نرى توثيقــًا مفصًال لأللعاب الشعبية ذات الطابع املشــهدي. في فلسطني، مت توثيق مجتمــع الفرجة في نوعني من التجمعات: األول يتعلق باملشــاهد املوســيقية التي رافقت مواســم الربيع والصيف، مثل النبي موسى (في أريحا) والنبــي روبني في يافــا والثاني يتعلق باملســرح الشــعبي، مثل خيال الظل (األراكوز) وصندوق العجب وبدايات املسرح احلديث.
وتضيــف «قد يكــون مقهى املعــارف الكائن مقابل باب اخلليل في القدس أول مسرح باملعنى احلديــث، الــذي كان ُيعــَرض فيــه نوعان من املســرحيات التقليدية (خيال الظل)، واحلديثة (روميــو وجولييت)، وقــد وثق ذلــك واصف جوهرية في كتاب «القدس االنتدابية في املذكرات اجلوهريــة»، كمــا وثق صــورة فريدة ملســرح املعارف أخذتها العني الســحرية لشركة أندروود سنة .1904
نعود إلى الســؤال الوارد أعــاه ـ ما هو اجلديد في صورة لعبة كرة القدم؟
عن ذلك تتابع مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالقــول: «أوًال إنهــا توّثق حداثة مشــهدية في حواضر فلســطني يختلط فيها النساء والرجال في مــكان عــام خــارج املناســبات الدينية أو املوســمية ألصحاب املقامات واألوليــاء. ثانيا: إنها توثق دخول اجلماهير الواسعة في ساحات املدينة في عالقــة املتفرج واملشــارك في اللعبة (تشــجيع، هتافات، إلخ...) خارج رقابة الدولة، أو مؤسسات الدين الرســمي. ال شك في أن لعبة كرة القــدم تنتمي إلى تلك املظاهــر من االحتفاء اجلماهيــري، التي تشــكل خطرا علــى الدولة، كما هي احلال بالنســبة إلى تظاهــرات احلرية التــي انبثقت مــن الثورة الدســتورية في ربيع .1908 ثالثــًا: إن جتمهرات كــرة القدم هي ُفرجة
جماهيــر تعتمد على تنفيس االحتقان الشــعبي من خالل صراعات حــول اللعبة ومتاثل جمهور املتفرجني مــع أحد الفريقني ضــد اآلخر. وبذلك، هي أشبه بامللهاة التي انتشرت في بدايات ألعاب الدولة الرومانية، والتــي عرفت مبفهوم «اخلبز والســيرك»، وهي عملية التنفيس التي تخلص النخبــة احلاكمة من غضــب احملرومني من خالل إلهائهم باأللعاب املشهدية، إال أن لعبة الفوتبول اســتطاعت أن تتجاوز هذه احلــدود التاريخية من خالل متاثل جمهورهــا مبجموعات إثنية، أو اجتماعية محرومة، أصبحت متثلها.
إال إن صورة لعبة باب الساهرة ما زالت بعيدة عن هذه التحوالت التنفيسية، وما زالت في حيز ذاكرة الفرجة املبهجة للجماهير املقدســية التي خرجت من مقيدات البلدة القدمية إلى عالم جديد رحب يبشر باالنعتاق النفسي واالجتماعي.
وتخلص مؤسسة الدراســات للشكر اجلزيل للســيدة هالــة زيــن العابدين، أمينــة مكتبتها في بيــروت لتوفيرها صــورة لعبة كــرة القدم التاريخيه (باب الساهرة) من مجموعة مؤسسة الدراســات الفلســطينية، وإلــى الســيدة النا الرنتيسي لتنضيد هذه املدونة وجميع املدونات السابقة.