Al-Quds Al-Arabi

تداخل اختصاصات أم دراسات بينية؟

سعيد يقطني

- ٭ كاتب مغربي

■ عمــل النقــد العربــي علــى تبنــي البنيوية في الثمانينيا­ت، ثم طرحها في التســعيني­ات لفائدة النقد الثقافي بدعوى جتاوز الشــكل والتقنية واالنتقال إلى استكشــاف األنســاق املضمرة. وخالل العقد األول من األلفية اجلديدة بدأ االهتمام باألدب الرقمي، وفي العقد الثاني برزت الدراســات البينية، وفــي أواخره اجته التركيز نحو الســرديات ما بعد الكالسيكية. إنه مسار متقطع كما عبرنــا عنه في كتاب الفكــر األدبي العربي .)2014( فكلما برز إبــدال جديد في الغرب جندنا نتجه إليه، متنكرين ملا ما رســناه ســابقا، باحلماس نفسه، واإلقبال املنقطع النظير ذاته.

عندما ســمعت ألول مــرة بـ«الدراســات البينية» و«الفكر البيني» وعملت املقصود منهما، تعوذت بالعلم من «شــيطان النظرية العربية» الذي يحرف األشياء، ويجعلها تستســلم للهوى غير العقلــي. وصاحب ذاك التعــوذ الدعاء للفكــر العربي أن يبحــث عن الطريق الســليم إلى الرشــد، ألني أرى أن الضالل املهيمن وليد منطلقات خاطئة في تكوين اجلامعات العربية، وكليات آدابها على اخلصوص، والذي يستمر إلى اآلن. لذلك ال غرو أن جند املتخيل األكادميي العربي ضد االختصاص، والعلــم. وحتى عندمــا يترجم ما يتصــل مبا ينجز في الفضاءات الثقافية واألكادميي­ــة العاملية جنده يكيفها مع ما تربى عليه، فإذا هي هجينــة وخاطئة في الوقت نفســه. فما معنى «البينية» وهي بني مــاذا وماذا؟ وما معنى الفكر والتفكير البيني؟ يقولون إن الغرب اهتدى منذ بداية األلفية اجلديدة إلى أن الدراســات التي تبنى على االختصاصات املنغلقة لم يبق ما يسوغ استمراره. وهذا صحيح. فما تولد مع البنيويــة التي دافع إبدالها املعرفي علــى االختصاص وصل إلى حد االكتفاء، وكان من الطبيعي االنتقال إلى ما بعــد البنيوية التي جعلت احلديــث عن تداخــل االختصاصــ­ات وتعددها ممكنا وضروريــا لولوج حقبة جديدة مــن التفكير والبحث. ويبدو لنا هذا واضحا في انتقال السرديات الكالسيكية، وهي اختصــاص علمي خاص، إلى الســرديات ما بعد الكالســيك­ية التي تتداخل فيها السرديات مع غيرها من العلوم واالختصاصـ­ـات. لذلك جند احلديث عن تداخل االختصاصــ­ات، وتعددها، ومختلف أنــواع العالقات التي ميكن حصولها بني االختصاصات اخملتلفة مطروحا اآلن بصورة كبيرة في األدبيات العاملية.

ملــاذا لــم نترجــم ( )Interdisci­plinarity أو )Transdisci­plinariy( بتداخــل االختصاصــ­ات أو تعددهــا، وذلــك باحلفــاظ علــى الكلمــة األصلية )Discipline( وإضافة الســوابق ( inter/trans/ )multi/intra املناســبة لهــا بالعربيــة حســب ما تقتضيه من نوع العالقات املراد حتديدها، وآثرنا عليها «الدراسات البينية»؟ قل لي: كيف تترجم املصطلحات؟ أقل لــك: كيف تفهمها؟ ومن أي منطلق تترجمها؟ ترجمة «البينيــة» تعكس الطريقة التي يفكــر بها األكادمييو­ن العرب فــي البحث «العلمــي» وكيفية ممارســتهم له، والتــي ال عالقة لها بالعلــم وال بإجراءاته ومبادئه. إن معنى الدراســات البينيــة، والفكــر، والتفكير البيني ملتبس، وغامض، ودال على الفوضى والتســيب، وما شــئت من النعوت التي تدل على كل شيء دون أن تدل على شيء معني.

إن شــيطان النظريــة العربية ميــارس التلبيس النظري على حد تعبير ابن اجلــوزي وهو يتحدث عن «تلبيس أبليس». ولعل الســبب في ذلك ببســاطة أن أكادمييتنـ­ـا األدبية ال تؤمن بالعلــم، وال باالختصاص، وليســت لديهــا اختصاصــات، ولذلك فعندمــا تؤثر مصطلــح «البينية» عن «تداخل االختصاصات» أو «بني االختصاصات» فهي بذلك تقر بغيابها، ولذلك ال تذكرها، وتــرى في املا بني مــا يجمع املتضــادا­ت، واملتنافرا­ت، وحتى غير املوجودات؟

واكبْت قضيُة االختصاصــ­ات وتداخلها، وتعددها الفكــَر العلمــي الغربي منــذ بدايات انفصــال العلوم عن الفلســفة إلى اآلن. وهذه القضية تثــار بني الفينة واألخرى كلما طرأ جديد على اإلبداالت املعرفية، وفي أي عصر معرفــي. وحني طرحت في بداية األلفية اجلديدة، في فرنسا مثال، لم تكن نشازا في تاريخ العلوم واألفكار. كانت نقاشا جديدا في سياق عصر معرفي جديد ظهرت فيــه علوم جديــدة، وحاجات اجتماعيــة واقتصادية ومعرفية جديدة. فجاء احلديث عن تعدد االختصاصات وتنوعها، وتداخلها مطلبــا حيويا للتطوير والتحويل. لم يكن نقاشــا ضد االختصاص الضيــق واملنغلق، كما نتوهــم. إن االختصاصــ­ات موجــودة وقائمة، وهي تتشــكل كلما كانت هناك ضرورة لتشكلها. فاملعلوميا­ت والعلوم املعرفية، والذكاء االصطناعي، ونظرية الذهن، والعلوم العصبية، وغيرها اختصاصات جديدة، وهي تضاف إلى االختصاصات القدمية واحلديثة، وكل منها يبحث له عن استقالليته، ومن ثمة عن العالقات املمكنة التي ميكن أن جتمعه مع غيره من االختصاصات بهدف تطوير املعرفة، ألنها تســتند جميعا إلــى مبادئ علمية موحدة ومشتركة.

إن كل املتدخلــن­ي في قضيــة تداخل االختصاصات يقــرون أوال بوجود االختصاصــ­ات. وحني يتحدثون عن العالقات بينها، يتســاءلون عن كيفية ممارســتها. يعتبــر إدغار موران مــن بني أهم املدافعــن­ي عن «تعدد االختصاصات» وهو يرى أن املشــكل احلقيقي ليس في تعدد االختصاصات، لكن في طريقة ممارستها. وينادي بضرورة االرتقاء إلى تعدد اختصاصات جديد يستدعي إبــداال يســمح، نســبيا، بالفصل بــني االختصاصات العلمية اخملتلفة، وفي الوقت نفســه، يكون قادرا على جعلها متواصلة فيما بينها، دون أي اختزال، أو تبسيط.

بال اختصاصــات «علمية» وال «إبــداالت» معرفية كيف ميكننــا احلديث عن البينية؟ وبأيــة طريقة؟ إنه التلبيس املستمر. السنة الرابعة والثالثون العدد 10822 األربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 - 6 جمادى األولى 1444 هـ

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom