Al-Quds Al-Arabi

الطفل الذي بكى

-

يســتذكر ادم ذكرياته الشــائكة مع والده، وهو طفل صغير، تلك الذكريات التي تغلب عليها الندرة، واختالط املشاعر، واحليرة التي كانت تتلبسه، وما زالت تتلبسه كلما استرجع تلك الذكريات.

عــاش ادم طفولة معقدة بعض الشــيء، انطباعــه األولي كان الغضب العارم على غياب والده املتكرر، والذي لم يكن يسمح ببناء عالقة تناغم وتواصل قوية ومســتمرة بينهما، فقــد كانت متقطعة ومتخبطة.

والده الــذي اغترب لفترة طويلــة، لم يكن متواجــدا في أغلب األوقات ملشــاركة طفله حلظاته املميزة، ومناســبات­ه اخلاصة، عيد ميــالده، احتفالية انتهاء العام الدراســي، فــوزه مبيدالية بطولة الشــطرجن، مشــاركته في اللعب بالثلج، أو حتــى اصطحابه إلى السينما في عطلة نهاية األسبوع.

كانت هذه الفترة في حياة ادم، مخدوشة دوما، ومدعاة للشعور بالنقص، نقص األبوة، ونقص العاطفة.

حميمية املشاعر

ولكنهــا كانت فترة مرضيــة من ناحية أخرى، فقــد نال فيها ادم الكثير من الهدايا الثمينة، واستحوذ خاللها على العديد من األلعاب باهظة الثمن، ومتكن من االنتساب إلى نادي الشطرجن للناشئني.

ومن هنا كان ادم حائرا في املفاضلة بني حميمية املشاعر، وبني ما ميكن أن يجنيه من غيابها، وهي ال شك معادلة صعبة!

أما الفترة التي تلتها، فتلك التي لم تأِت مبفيٍد له، فقد عاد أبوه من اخلليج إثر غزو الكويت بخفي حنني، وعانى األمرين للحصول على وظيفة بعد الكساد الذي شهده الســوق، وهو ما أدى إلى انخفاض

ملحوظ في مســتوى املعيشــة للعائلة، نتج عنه حتويــل ادم إلى مدرسة حكومية، وانفصاله عن ترف العيش الطفولي.

لم يتوقف األمر عند هذا احلد، بــل أصبح تواجد والده في املنزل نادرا جدا، حيث اضطر أن يعمل ســائق «تاكســي» بعــد الوظيفة احلكومية لســد احتياجات األسرة، ما أدى إلى اختصار تواصل ادم مع والده إلى ساعات قليلة في األسبوع، محصورة في يوم اجلمعة.

عاش ادم حالة نفســية مزرية، ولكنه لم يصرح ألحد، حتى ألمه، أقرب الناس إليه، وجسر احملبة بينه وبني أبيه، بل بينه وبني العالم.

هذا الكبت الذي عاشه، أدى إلى حالة فريدة من احتباس الدموع؛ لم يكــن ادم قادرا على البــكاء، حتى لو تعرض ألقســى عقاب من مدرســيه، أو تعنيٍف من زمالئه الذين يتنمرون عليه كونه من أوالد الطبقة االرستقراط­ية وأهل اخلليج. لم يكن قادرا على البكاء، حتى لو شعر بالرغبة في ذلك!

استمرت هذه احلالة معه لسنوات، ولم يشعر بها سوى والدته، التــي حاولت عالجه وعرضه على األطباء، بــل وعلى جارتها التي تعمل باحلجب، دون أي جدوى!

التحصيل العلمي

وفي يوم من األيام، قرر ادم مواجهة واقعه، والتحدث إلى والده، كان يريد أن يصرخ في وجهه، أن يتخلــص من كل األعباء اجلاثمة علــى صدره ويلقــي بها عليــه، كان يريد أن يقول له بأنه تســبب بتراجع مستواه األكادميي، وحتصيله العلمي، وأنه خسر أصدقاءه وزمالءه في املدرسة القدمية بســببه، وأنه حرم من حلم العمر بأن يكون بطال دوليا في الشطرجن يوما ما، بل إنه حرم من طفولته ومن حقه في البكاء، إلخ القائمة الطويلة من العتاب واللوم!

كان والده، في هــذه اللحظة ميثل له كل املعوقات التي متنعه من النجاح، كان مقصرا في حقه، وفي حق والدته، ورمبا في حق نفسه، ولكــن ادم لم يكن مباليا بذلك، ما يهمه هو حقه هو، فوالده ووالدته ناضجان يتحمالن مسؤولية نفسيهما، أما هو فال.

وفي تلــك الليلة، لم ينــم ادم، اصطنع النعــاس، واندس حتت الفراش في غرفته، أغلق عينيه وأبقى الباب مفتوحا، مرخيا السمع. مرت الســاعة تلو الســاعة، حتى اقترب الليل مــن االنتصاف، وإذ بدقات خفيفة على باب الشــقة، حتركت والدته بخفة إثرها لتشــق الباب بهدوء وتعانق والده مرحبة به. فتح ادم عينيه، وبقي متيقظا، متحينا الفرصة للخروج. ســألته زوجته عن يومه، شــرح لهــا معاناته دون أن تســقط االبتســام­ة عن وجهه، حدثها عن بخل ذلــك الزبون ثم ألقى النكات متندرا عليه. حدثها عن العجوز املســنة التي رفــض أن يأخذ منها األجرة، وشاركها الضحك على نصيبه الناقص في الدنيا!.

هزمية الزمن

وبينمــا كان يتناول طعام الغــذاء -أو العشــاء املتأخر- قال، جاءني أحد املراجعني صباح اليوم، يبدو عليه أنه أديب أو صحافي، كان يريد استخراج شــهادة وفاة ألبيه، وما أن تبادلت معه أطراف احلديــث، حتى فتح لي قلبــه، وقال بضع كلمــات حفظتها أو لعلي حفظــت معناها، قال: عندما ميوت أبوك تــدرك أنه كان رجال عاديا لم يكــن بإمكانه أن يفعل أكثر مما كان، تتصــوره بطال وتتوقع منه املعجزات، ولكنه في النهاية مجرد إنسان قد هزمه الزمن. ثم تتمنى بعــد أن تدرك ذلــك، لو أنك عقلــت ذلك باكرا، وبادلتــه احلب بدل العتاب!

ساد الصمت املكان، وحشرج صوته، بينما ابتلعت الصدمة لسان األم وجتمدت تعابيرها، شــعرت أن الكالم هذا نابٌع من قلٍب مكلوم، وحزن مكتوم، أو لعلها أدركت في تلك اللحظة، أنها هي ذاتها لم تكن تتصور أن الزمن ميكن أن يهزم هذا الشــخص الذي أحبته وعاشت معه الســراء والضراء، بــل إنها لرمبا لم يخطر فــي بالها أن املوت نفسه قادر على أن يهزمه!

«ادم» قال، ادم كان أول مــن خطر على بالي تلك اللحظة، وظللت مشــغوال بالتفكير به طوال اليوم، هل هو نائــم؟ لم جتب الزوجة؛ كانــت غارقة في التفكير وتتمتم بكلمات غير مفهومة، مســك بيديها وهزها، ما ب ِك!

قالت ببطء وبصــوت متهدج: (إنني أختار احلياة، ســأحيا ألن ثمة أناسا قليلني أحب أن أبقى معهم أطول وقٍت ممكن، ... ال يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنــى!) ثم أردفت، تذكرت هذه الكلمات من رواية الطيب صالح، كنت أقرأها هذا الصباح!.

كان الكالم مؤثرا، ووصل إلــى قلب والد ادم كما أرادت بالضبط. قال متلعثما محاوال تغيير احلديث، ادم، كنت أسألك عن ادم. ال تزعجه، بالكاد نام، شعرت به وهو يقاوم النوم في فراشه. انســل الوالد بخفة ودخل غرفة ادم، وقف قبالة السرير، كان ادم قد أغلق عينيه، ورسم على محياه مالمح الهدوء والسكينة، بعد أن ابتلع كل كالم العتاب ولم ينبس ببنت شفة.

ابتسم والده، تفحصه مليا كان قلبه يراوده أن يوقظه من نومه، كي يحتضنه، كي يشتم رائحته، ويقبل جبينه، ولكنه لم يفعل، غادر الغرفة كما دخلها بخفة وأغلق الباب وراءه بهدوء.

فتــح ادم عينيه، وفي تلك اللحظة شــعر بحاجــٍة ملحٍة للبكاء، حينها بكى، نعم بكى، بكى بشــدة واسترسلت الدموع، بل انهمرت كطوفان نوح.

٭

كاتب ومدون من األردن

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom