Al-Quds Al-Arabi

ليس عصا موسى وال وليمة من السماء إنه دين على مصر واجب السداد

-

التدهــور الشــديد في ســوق النقد األجنبي في مصــر، واســتمرار الهبوط احلر للجنيه في غيــاب أي كابح يحد من ذلك، وارتفاع التضخم إلى ما يقرب من ضعف املعدل املستهدف في املوازنة احلالية، وتراجــع حتويالت املصريني العاملني في اخلارج، واتساع عجز احلســاب اجلاري، وزيادة أعباء الدين العام، متثل كلها مظاهر أزمة اقتصادية متكاملة األركان. األخطر من كل هذه املؤشرات هو انعدام الثقة في نوايا احلكومة التخاذ إجــراءات إصالحية مت االتفاق عليها فــي املباحثات التي متت على مستوى اخلبراء مع صندوق النقد الدولي.

التلكــؤ في إجــراء اإلصالحات املطلوبة الــواردة في بيان صندوق النقد الدولي بتاريخ 27 من الشــهر املاضي من شــأنه أن يرفع تكلفة اإلصالح في ما بعد، ويــؤدي إلى تعقيد األزمة، وزيادة حدة املعاناة االقتصادية، التي تتجلى حاليا، ليس فقط في ارتفاع األســعار، ولكن في شحة السلع واختفاء بعضها من األسواق، بســبب توقف االستيراد بواســطة القطاع اخلاص تقريبا في األســابيع األخيرة. انعدام الثقة في نوايا اإلصالح أخطر بكثير من أزمة اجلنيه وشحة السلع ونقص الدوالر.

ويتطلب القضــاء على أزمة انعدام الثقــة، اتخاذ إجراءات جدية عاجلــة بخصوص ثالثــة قضايا رئيســية: األولى هي تخفيض الدين العام، والثانية هي حترير الســوق من سيطرة الدولة، وإطالق منو اقتصادي يقوده القطاع اخلاص، والثالثة هي إنهاء حالة عدم التوافق بني السياســة املالية والسياســة النقدية، حيث إن كال منهما تســير في اجتاه معاكس لألخرى. السياســة املالية تتبنى التوســع في اإلنفاق احلكومي، بزعم متويل ما يطلق عليه «املشــروعا­ت املركزية»، وذلك عن طريق التوســع في الدين العام، بينما السياســة النقدية تســتخدم كل األدوات املمكنة لسحب الســيولة من السوق، ما يعني شل إمكانيات التمويل للقطاع اخلاص. ولن تستطيع احلكومة إقناع صندوق النقد الدولي وال شركاء التنمية بتقدمي أموال ملساندة برنامــج لإلصالح االقتصادي، ال وجود لــه على أرض الواقع. ســعر الدوالر في الســوق ما يزال إداريا، ولهذا نشــأت سوق سوداء تتســع كل يوم، وهناك تلكؤ واضح في طرح الشركات اململوكة للدولة وأجهزتها للبيع في السوق، باستثناء احلصص التي بيعت إلى صناديق استثمارية مملوكة لدول أخرى. كما أن القطاع اخلاص املصري نفســه بدأ يفقد الثقــة في القدرة على املنافسة في سوق تســيطر عليها الدولة قليلة السيولة، فاتخذ أقصــر الطرق للخروج من الســوق، ببيع نفســه ملن يدفع من املستثمرين العرب.

القرض وشروطه

ومن املتوقع إدراج قرض صنــدوق النقد الدولي ملصر على جدول أعمال اجمللــس التنفيذي للصندوق في الشــهر املقبل. القرض، حســب االتفاق األولي على مستوى اخلبراء، ينقسم إلى شقني: األول حسب آلية التسهيالت املمددة بقيمة 3 مليارات دوالر، والثاني حســب آليــة متويل جديدة أقرهــا الصندوق لزيادة قــدرة الدول النامية على حتمــل الصدمات اخلارجية، وتبلغ قيمته مليــار دوالر. قرض التســهيال­ت املمددة مربوط بإصالحات منصــوص عليها، ويخضع ملراجعة دورية، بعد كل شــريحة لتقييم مدى التزام احلكومة بتنفيذ برنامج اإلصالح املتفق عليه. كما أن الصندوق تعهد أيضا بتسهيل حصول مصر على قروض بقيمــة 5 مليارات دوالر من شــركاء التنمية، مثل البنك الدولي وبنك التنمية االفريقي وبنك اإلنشــاء والتعمير األوروبي وغيرها من الدول ومؤسســات التمويــل والتنمية الدوليــة املتعددة األطــراف. هذه القــروض جميعا هي ديون واجبة الســداد، فوق الديون القائمة فعــال. وميكن تلخيص شروط اإلقراض اجلديد على النحو التالي:

أوال: إصالح السياســة املاليــة لتحقيق االنضبــاط املالي لضمان استدامة الدين العام، وانخفاض نسبته للناجت احمللي اإلجمالي في األجل املتوسط، وتعزيز شبكة األمان االجتماعي، وتوفير الشــفافية للموازنــة العامة للدولــة وعناصر املالية العامــة، وزيادة القدرة علــى التحمل االقتصــاد­ي ومواجهة الصدمات اخلارجية.

ثانيا: إصالح السياســة النقدية لتحقيــق أهداف تتضمن ضبط معدل التضخم داخل املعدل املســتهدف املعلن، وحتقيق

مرونة ســعر الصرف، وكفاءة عمل السياسة النقدية، وإعادة بناء االحتياطي النقدي األجنبي مبوارد حقيقية مستدامة.

ثالثا: إجراء إصالحات في هيكل االقتصاد وعالقات السوق، مبا يحقق رفع مســتوى القدرات التنافسية من خالل احلد من دور الدولــة، وتقليل نصيبهــا في االقتصــاد، وحتقيق تكافؤ الفرص للقطاع اخلاص، وتعزيز املنافسة والشفافية، وحتسني مناخ األعمال، مع التحول تدريجيا إلى االقتصاد األخضر.

العوائق احلالية

تعاني الســوق في الوقت احلالي من االنعكاسات السلبية الرتفاع التضخم عن املعدل املســتهدف، البالــغ 7 في املئة، في موازنة العام احلالي، مع هامش للتغير بنسبة 2 في املئة ارتفاعا أو انخفاضا، ويبلغ معدل التضخم املعلن للشــهر املاضي 16.2 في املئة، في حني يبلغ معدل التضخم للســلع الغذائية حوالي 24 في املئة. ومن املرجح أن تظهر بيانات الشــهر احلالي مزيدا من االرتفاع في التضخم. كما تعاني السوق أيضا من انخفاض االحتياطي النقــدي الدولي، وهو ما ترك أثــره في التصنيف االئتماني ملصــر، رغم بقائه عنــد مســتوى B، إال أن النظرة املستقبلية له حتولت من مســتقرة إلى سلبية. وهذا ما يسبب قلقا كبيرا للحكومــة، التي تريد رفع قيمة االحتياطي بأي ثمن، حتى ال يهبط تصنيف الديون الســيادية ملصر إلى أسوأ مما هو عليه. وإذا كان البنك املركزي يستطيع التحكم في تدفق الدوالر محليا، بتقليل متويل الواردات، فإنه ال يســتطيع االمتناع عن خدمــة الديون اخلارجية القائمة، ملا فــي ذلك من خطورة على التصنيف اإلئتماني للديون احلكومية السيادية واملضمونة.

ارتفاع خدمة الدين العام

احلكومة قدرت متوســط ســعر الفائدة على أوراق متويل اخلزانة في الســنة املاليــة املقبلــة مبعــدل .%14.5 وطبقا للنموذج الرياضي املعمول به فــي وزارة املالية فإن كل ارتفاع في العائد أو الفائدة على أذون وســندات اخلزانة مبقدار نقطة مئوية واحدة يكلــف اخلزانة العامة حوالــي 30 مليار جنيه، زيــادة في مدفوعــات الفائدة علــى الدين العــام. وقد ارتفع متوســط العائد الذي تدفعه احلكومة على أوراق متويل الدين العــام إلى أكثر من 18 في املئة، إضافة إلى التركيز الشــديد في التمويل على أذون اخلزانة، التي يتراوح أجل اســتحقاقه­ا بني 91 يوما إلــى 364 يوما. هذا يعنــي أوال أن احلكومة تدفع اآلن فائدة على الدين العام تزيــد بقيمة 120 مليار جنيه تقريبا عن التقديرات الواردة في مشــروع املوازنة، ويعني ثانيا أن إعادة متويل األذون خالل السنة املالية من املرجح أن يسفر عن تكلفة أعلى. الزيادة في تكلفة االقتراض احلكومي وزيادة الدين العام كنسبة من الناجت احمللي اإلجمالي، من شأنها أن تزيد من القلق على حالة االقتصاد، وتؤدي إلى عدم الثقة في السياسة املالية، ألن احلكومة بدال مــن أن تنجح في تخفيض الدين العام، فإنها تغرق أكثر وأكثر في مستنقع الديون.

إخضاع كل الكيانات االقتصادية للضرائب

ويطالب صندوق النقد الدولة بإعداد اســتراتيج­ية إلدارة اإليــرادا­ت العامة في األجل املتوســط، فــي محاولة لتضييق فجوة االحتياجات التمويلية احملليــة واخلارجية. لكن وزارة املالية التي تعجز اآلن عن االلتزام بأهداف اســتراتيج­ية إدارة الدين العام في األجل املتوسط، جتد نفسها أيضا في حالة شلل إزاء القــدرة على زيادة اإليرادات العامــة من خالل الضرائب على األنشــطة االقتصادية. ومــن ثم فإنها تلجأ إلى توســيع اجملتمع الضريبي، لزيادة احلصيلة الضريبية بنســبة 0.5 في املئــة من الناجت احمللي اإلجمالي ســنويا. وقد فشــلت اإلدارة املالية حتى اآلن في دمج األنشــطة والكيانات االقتصادية غير اخلاضعة لقوانني الشــركات والضرائب والرسوم والدمغات اخملتلفــة، وتلك التي تتمتع بإعفاءات واســعة النطاق، لتكون ضمن االقتصاد الرسمي املنظم اخلاضع للرقابة. األسوأ من ذلك أن احلكومة تضمن سداد الديون املستحقة على الهيئات العامة االقتصاديـ­ـة، وهي ديون تعادل 21 في املئــة من الناجت احمللي اإلجمالي، وتتسبب عمليا في استنزاف اإليرادات الضريبية.

تدهور االقتصاد منذ بداية السنة املالية

القطاع اخلاص بدأ يفقد الثقة في القدرة على املنافسة في سوق تسيطر عليها الدولة قليلة السيولة، ففضل اخلروج من السوق، ببيع نفسه ملن يدفع من املستثمرين العرب

خالل األشــهر األخيــرة أظهرت مؤشــرات النمو انخفاض اإلنتاج العيني، وارتفاع نســبة البطالة، وانكماش الصادرات والــواردا­ت، وارتفاع التضخم، وتراجــع حتويالت املصريني العاملني في اخلارج، وانخفاض أســعار تصدير الغاز الطبيعي واملشــتقا­ت البتروليــ­ة، وتبخر املــوارد االســتثنا­ئية بالنقد األجنبي، التي حصلت عليها مصر منذ أبريل/نيســان املاضي، ببيع عدد كبير من األصول االســتثما­رية املمتــازة، التي كانت تدر دخال كبيرا للخزانة العامــة للدولة، مثل احلصص املباعة فــي البنوك وشــركات اخلدمات املالية، وشــركات األســمدة والكيماويا­ت واأللومنيو­م، وشــركات النقل البحري وخدمات املوانــئ وغيرها. إيــرادات بيع هذه األصول االســتثما­رية مت إنفاقها على األرجح في متويل خدمة الديون، واإلنفاق اجلاري للحكومة العامة، وهو ما يعني أن ثروات األجيال الســابقة مت تبديدها مــن دون مقابل تقريبا. ويبدو اآلن أن حصيلة القرض اجلديد في حال االتفاق النهائي مهددة باملصير نفسه.

*كاتب مصري

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom