Al-Quds Al-Arabi

«هّبات عا مّد النظر»...

- جلبير األشقر ٭

■ هبات شــعبية، شبابية بوجه خاص، «عــا مد النظــر» (لو اســتعرنا كلمــات عبد اجلليل وهبه التي غناهــا وديع الصافي)، مــن الســودان إلــى إيــران ومنها إلــى الصني، وقــد عصفت في املاضي القريب في بلدان شــتى من أمريكا الشــمالية والالتينية وأوروبــا وأفريقيا وآســيا. وهي هبات تندرج فــي طور تاريخي يرى الباحثون في زمننا املعاصر أنه طور دفعته بقوة االنتفاضة العربية الكبرى التي انفجرت في عام .2011 واحلال أن الســنني املتعاقبة منــذ ذلك «الربيع العربي» ال تني تظهر أن الطور الثوري الذي دّشــنه بعيٌد عن االنتهاء، ذلك أن الهّبــات املتتالية تثبت أن احلريــة والكرامة مبعنييهما الفردي واجلماعي ليســتا من القيم «الغربيــة» كمــا يّدعــي أعــداء احلّريــة والكرامة، زبانيــة أنظمة االســتبدا­د مبختلف أمناطها، بل هما قيمتان إنسانيتان بامتياز تخّصان اجلنس البشري بكافة أنواعه وألوانه.

فإن القاســم املشــترك بــني أكبر تظاهــرات شــهدتها املنطقة العربيــة، تلك املتعاقبة منذ أن هّب شــعب تونس إثر مقتل محمد البوعزيزي وشعب مصر إثر مقتل خالد سعيد، وقد شهدت حتى اآلن موجتــني كبريني في عامــي 2011 ،2019و وأعظم تظاهرات شــهدها تاريخ الواليــات املتحــدة األمريكية، تلك التــي اندلعت قبل ســنتني إثــر مقتل جــورج فلويد، وقــد بلغ عدد املشــاركن­ي فيها حســب صحيفة «نيويورك تاميــز» 35 مليونًا، والتظاهرات التي ال تزال تعصف بالســاحة اإليرانية منذ مقتل مهســا أميني قبل شــهرين ونصف، وتلك التي تخّض الصــني اليوم، وتخّض بالتالي العالم بأسره، منذ مقتل عشرة أشخاص في حريق شّب يــوم اخلميس املاضي في مبنى ســكني في مدينة أورومتشــي، عاصمة إقليم ســنجان، إن الذي يجمع كافة هذه التظاهرات إمنا هو التوق إلى احلرية والكرامة.

فما أراده شــعب تونس وشعب مصر وسائر شعوب املنطقة العربيــة، الســيما الشــعب الليبــي والشــعب الســوري اللذان ذاقــا األمّريــن من نظامني عائليــني ترّبعا على ســّدة احلكم في البلديــن خالل عقود طويلة، وال زال أحدهمــا يطأ بثقله الذي ال ُيطاق على رقاب غالبية الســوريني بدعم من نظامي االســتبدا­د اإليراني والروســي على غرار وطأة جزمة الشــرطي على رقبة جورج فلويد، ومــا أراده املتظاهرون واملتظاهرا­ت في الواليات املتحــدة احملتّجون على تاريخ طويل مــن االضطهاد العنصري، وما أراده املتظاهرات واملتظاهرو­ن في إيران باالنتفاض ضد ما يزيد عن أربعني عامًا من االســتبدا­د باسم الدين، وهو استبداد يطــال النســاء أوًال وال يوّفــر الرجــال، ومــا أراده املتظاهرون واملتظاهرا­ت في الصني في وجه اشتداد الرقابة على حيواتهم، وقــد بلغــت مع جائحــة الكوفيد حــّدًا ال ُيطاق، أشــبه ما يكون بالكابــوس الذي تخّيلــه الكاتب البريطاني جــورج أورويل في روايته الشــهيرة ،»1984« ما أراده جميع هؤالء واملاليني غيرهم الذين هّبوا خالل الســنوات األخيرة، منذ العقد الثاني من القرن الراهــن علــى األخص، يتلّخص حقــًا أو يــكاد بتعبيري احلرية والكرامة.

إنهــا احلريــة التــي تنجم عن فتح بــاب القفص، بــل وحتطيم القفــص، وحريــة التعبيــر السياســي والثقافي بكافة أشــكال التعبيــر، وحرية ارتداء امللبس الذي يــروق لك وملعتقداتك، وهي كرامة اإلنســان مهما كان لون بشــرته، والســيما اإلنســان ذي البشــرة الســوداء، ومهما كان جنســه البيولوجي، ذكــرا أكان أم أنثى، وهواه اجلنســي. واحلرية والكرامة قيمتان نفيســتان نادرتــان جدًا فــي منطقتنا، إلى حــّد أن بعض الناس حســبهما مســتحيلتن­ي علينــا، بل وظّنوهمــا حصرًا علــى الغربيني، وكأن اإلنســان فــي «الغرب» ُولــد حّرًا كرميــًا منذ فجــر التاريخ بينما احلقيقة هــي أن التحرر اجملتمعي نزعة رافقــت انتقال «العمران احلضــاري» (في تســمية ابــن خلــدون) إلى العصــر الصناعي احلديــث. فليس التحرر ســمة من ســمات «احلضــارة الغربية» كما يروق ألعداء التحرر تصويره، بل سمة من سمات احلضارة العصرية، ومن يعارض هــذا التحّرر ليس مناهضًا للغرب بل هو مناهض للحداثة، ليس إال.

هّبات «عا مّد النظر ما بينشــبع منها نظر»، وســوف تتواصل مهما أصابها من نكســات وهزائم، مثل أمواج البحر التي تتتالى فــي لطم جــدار صخري إلى أن يتفتت، كما ســبق أن شــبهناها. وســوف تتحطــم كافــة اجلــدران ال محــال إذ إنه ميــل التاريخ الطبيعي، والتاريخ احلديث مليء بحاالت األنظمة االســتبدا­دية التي انهارت بعد عقود أكد خاللها الكثيرون أنها أنظمة راســخة إلى األبد.

٭ كاتب وأكادميي من لبنان

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom