Al-Quds Al-Arabi

عن عيش أكثر وتدين أقل!

حسن داوود

- *

■ نحن في األيام التي ســبقت عام ،1975 بداية احلرب، حــن كانــت الطوائف تختبــر إمكان تعايشــها معــا. أتيح للشــيخ عبد الرحمن الشــاب القادم حديثا مــن النجف، أن يجاور عائلتن مســيحيتن، حيث حل في املدينة الساحلية الصغيــرة. كانــت العائلتان قــد نزلتا هناك نزوله نفســه: لهدايــة الرعية وتدبير شــؤونها. كان الشــيخ عبد الرحمن منفتحــا فــي خوضه الســجاالت مــع كل من القسيســين، اإلجنيلــي والبروتســ­تانتي، ومــدركا حلــدود التالقــي واالختــال­ف بن الدينــن، رغم اعتقــاده أن «نقاش األديان عبث ألن كل دين يرتكز على أسرار حميمة وخاصة ال تعني شيئا إال للمؤمنن به».

لكن الشــيخ لم يلبث أن وجد نفســه فــي صحبة األبناء تاركا القسيســن قابعن في مدارســهما وكنائسهما. كان شــيخا مختلفا، ممارســا للمهــارات اليدويــة التي تختص بالكهربــا­ء والنجــارة وكل مــا حتتاجــه البيــوت، وكان، بخــالف ظن املســيحين عــن رجل الديــن املســلم، يرتدي املايوه وينزل للسباحة في البحر. أعجب به هؤالء، وأولهم أنطوان الشاب ابن القســيس البروتستان­تي احملب للشعر واملنشغل بعالقاته النسائية العابرة مع ثالث نساء أو أربع نســاء من املقيمات حولــه، وبينهن غرايس ابنة القســيس اآلخر.

كان ميكــن للروايــة أن تســتمر في مجالهــا احملدود، لكن الثــري مبا حتملــه مالحظاتها الدقيقة عــن الفوارق بــن اجملتمعــن املتعايشــ­ن، لكن ســرعان مــا داهمتها احلرب. كان على العائالت الثالث أن تفترق وأن تتباعد. الشيخ بقي في «واصل» مع أمه، والعائلتان املسيحيتان انتقلت إحداهما إلى جونية واألحرى إلى األشــرفية في بيــروت. أمور كثيرة ســتحدث بينها احتمال أال تســتمر العالقــة الغرامية التي نشــأت بن الشــيخ وغرايس ابنة القــس ســليم. كان احملبان قــد جتاوزا بسالســة املوانع التي حال انفتاح احمليطن بهــم، دون أن تكون في نطاق احملرمات. وكان على الشــيخ ومعشــوقته أن يدميا بقاء عالقتهمــا وهما بعيــدان تفصل بينهمــا حواجز احلرب ومناطقها املتباعدة. هو الشيخ املتصالح مع نفسه حيث، بخالف مــا كان عليه القسيســان، «ال يرهقــه إميانه وال يدميــه باألســئلة» كان يتصــرف متخففا مــن ثقل جبته وعمامته، فنقرأه، فيما هو يكلــم محبوبته أو يحتضنها، أو يقبلهــا، كأنــه تخلص من هيئته كرجــل دين فنراه، أو نتخيله، مرتديا تي شــيرت عاديا. كمــا أنه بدا غريبا عما ميكن أن ميليه عليه لباســه حن جعله يبــدو رجال عاديا في مشــهد جماعــه مع غرايــس التي جاءت من ســكنها البعيد قاصدة أن متارس الغرام معه. في جميع املشــاهد تلك، املروية بلســان الشــيخ، بــدا كل تفصيل كأنه يضع قارئــه في حيز الغريب واملســتهج­ن. كل حركة تقوم بها اليــد وكل اســم للثيــاب التي ينبغــي خلعهــا أو إزاحتها لتتمكــن اليــد من الوصول إلــى حيث تقصــد، يراكم تلك الغرابــة. في اجملال الغريب واحلــرج أدار عباس بيضون روايته دون أن يشعرنا بأن خوض الغمار يالزمه حدوث ردود فعــل ومفاجــآت. كأنــه وقــع على أفــراد مثالين، وعائــالت مثالية، ميكن معهــا أن تختــرق املمنوعات بال ضجيــج. اجلميع يــدون قابلن مبا يحدث بــن اجلميع. عائلــة غريس، والده القــس ووالدته، ال يحملــون أيا من الصفات التــي ميكن أن نتوقعها. كأننــا في مجتمع حر، ميكن ألنطوان العاشــق فيه أن يتنقل بن الفتيات الثالث أو األربــع، وكل منهــن عاملة مبا يجــري. احتماالت إقامة العالقــات مفتوحــة وقائمــة بصــرف النظر عــن الغيرة والتحفظ والرفض الشخصي واالجتماعي.

احلــرب هنا عنيفة وقاســية فــي عناوينهــا العريضة حســب. لم تصــل عــدوى الكراهيــة والضغينــة إلى أي من الشــخصيات فــي الرواية. صحيح أن رمزي شــقيق أنطــوان تطــوع للقتال في صفــوف الكتائــب، وقتل في إحــدى معاركهــا، ومثلــه فعــل محمود شــقيق الشــيخ وقد القى املصير نفســه بعد انتســابه إلــى منظمة العمل الشــيوعي، إال أن احلدثــن لــم يؤديا إلــى فاجعة في ما تال من حياة تلك الشــخصيات. لكــن في املالحظات التي يقولها الشــيخ هناك على الدوام ما هو من قبيل الكشف، فــي حواراته مع القسيســن حــول الديــن، أو الدينين، يعلق قائال: «حن كنا نقول الله فإننا نعني خفية املوت». غرايس أيضا تقــول عن اختالف الشــيخ الالنهائي، إنه جعلهــا أشــبه بالال أحــد: «ليــس دينه وحــده اخملتلف، لباســه وســحنته ونبرة صوته ولهجتــه تختلف». وفي فصــل الرواية اخلتامي نقرأ، بلســان أنطوان، وقد هجر احلرب بعد أن ســبق له التورط فيها منصرفا إلى الشعر والتأمل، نقرأ أألفكار األكثر عمقا وكشفا عما هو الشعر، والتأمل أيضا. إنها عن عبــاس بيضون الرائية واملفكرة تلك التي متيز معظم كتاباته الروائية.

رواية عباس بيضون «حائط خامس» صدرت عن دار نوفل- هاشيت في 186 صفحة سنة .2022

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom